التاريخ: تموز ٢١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
حالة الجمود في النظام السياسي الفلسطيني - ماجد كيالي
يتّسم النظام السياسي الفلسطيني بالتقادم، حيث ما زالت الطبقة المسيطرة، والكيانات الفصائلية، وطرق العمل، هي ذاتها منذ عقود، وعلى الأقل منذ إقامة الكيان الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، أي منذ قرابة ربع قرن. كما يتّسم هذا النظام بالتآكل، وهذا يشمل مجمل الكيانات الجمعية، أي المنظمة والفصائل والمنظمات الشعبية (والسلطة)، التي باتت مستهلكة، ولم يعد لها تلك المكانة في مجتمعات الفلسطينيين، ولا الدور الكفاحي الذي كانت أخذته على عاتقها، قبل التحول من حركة تحرر إلى سلطة، وبخاصة مع إخفاق الخيارات السياسية أو النضالية التي كانت انتهجتها أو ادّعتها.

بيد أن الأمر لا يتوقف على التقادم والتآكل، إذ أن النظام السياسي الفلسطيني يتّسم بالعطل والجمود، فالطبقة السياسية السائدة تبدو «محافظة» جداً، من الناحية السياسية، وقد استمرأت العيش على الواقع، ولم تفكر قط بتغيير خياراتها، على رغم إقرارها بإفشال إسرائيل لخيار أوسلو، مثلاً، وعلى رغم قرارات «المجلس المركزي» (في آذار/مارس الماضي)، التي نصّت على وقف التنسيق الامني مع إسرائيل، والمضي في اجراءات المقاطعة الاقتصادية لها، ووقف المفاوضات معها، وبذل الجهود لعزلها ومحاكمتها دولياً. كما يتمثل عطل النظام في احتكار القرار السياسي، والحد من آليات المشاركة، وتقييد ديناميات تطوير النظام الفلسطيني، بحيث باتت الطبقة القيادية، على شيخوختها، والتي لم يعد لديها شيء تضيفه أو تقدمه، عقبة أمام تطور الحركة الوطنية الفلسطينية، وعبئاً عليها، ولنا أن نتصور حجم الكارثة مع معرفتنا بحيوية المجتمع الفلسطيني، وارتفاع نسبة التحصيل العلمي عنده، والتجربة الكفاحية المختزنة لديه منذ عقود.

مناسبة هذا الحديث إقالة ياسر عبد ربه من منصبه في أمانة سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، بطريقة تعسّفية ومزاجية، وضمن ذلك ردّة فعله الشكلية على هذا الأمر، ما يذكّر بأن هذه الطبقة تتواطأ مع بعضها للحفاظ على «الستاتيكو» السائد، وضمنه نظام المحاصصة («الكوتا») الفصائلي، بحيث تعيد إنتاج ذاتها، وحراسة مواقعها، على رغم انه لم يعد لديها شيء تضيفه، مع ضحالة دورها، وإعلانها فشل خياراتها. وكان عبد ربه اعترف بفشل خيار أوسلو، وهو ما كان اقر به الرئيس الفلسطيني أبو مازن مراراً، مع تهديده بتسليم مفاتيح السلطة الى نتانياهو والذهاب الى البيت (وليس الى الشعب الفلسطيني!).

السؤال الآن ليس عن شرعية او عدم شرعية إعفاء عبد ربه او غيره، فهذا حصل مراراً، حتى مع الرئيس ابو مازن، عندما كان رئيسا لأول حكومة في عهد الراحل ياسر عرفات، وإنما السؤال هو عن شرعية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، علماً أن آخر اجتماع للمجلس الوطني يعود الى عام 2006، وهو الاجتماع اليتيم الذي حصل في الداخل بعد قيام السلطة، والذي عقد استجابة للطلب الأميركي بتعديل «الميثاق الوطني»، وهذا حصل بغالبية 504 أصوات ومعارضة 54 صوتاً فقط وامتناع 12 عن التصويت. (www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=3793). لكن القصة لم تنته هنا، إذ أقرت التعديلات باجتماع هيئة غير معروفة ولا قانونية هي «المؤتمر الشعبي الفلسطيني» (في غزة أواخر 2008)، اجتمعت لهذا الغرض بحضور الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وبالتصويت برفع الأيدي.(www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/5925.pdf)

وللتذكير، فقد كان الرئيس عرفات ألقى وقتها كلمة، قال فيها: «ان شعبنا مع السلام العادل والشامل... إننا لن نتساهل، ولن نسمح لأحد بالعبث بأمن الطرفين... أحب أن أذكر أن المجلس الوطني قرر في 1996 تعديل الميثاق، بإلغاء جميع البنود التي تتعارض مع التزاماتنا بالحل السلمي، ونبذ وإدانة الإرهاب... ولقد قمت باسم منظمة التحرير بإرسال رسالة لفخامة الرئيس كلينتون أوضحت فيها بنود الميثاق التي تم إلغاؤها... والآن، في حضور فخامة رئيس الولايات المتحدة، فإنني أتوجه إليكم، أنتم أعضاء المجلس الوطني والتشريعي والمركزي، وأعضاء اللجنة التنفيذية، ومجلس الوزراء والهيئات والشخصيات الشعبية والاجتماعية... أتوجه إليكم جميعاً لتأييد هذه الرسالة... فهل تتفضلون وترفعون أيديكم بالموافقة على ذلك.» http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/5041.pdf)

هذا يفيد أيضاً ان اتفاق اوسلو (1993) لم يستمد شرعيته من الهيئة الشرعية للمنظمة (ولا من مؤتمر «فتح»، الوحيد من نوعه، الذي عقد في الداخل في 2009). ومعلوم أن هذا الاتفاق المجحف والناقص اختزل قضية فلسطين بالأراضي المحتلة 67 وجزّأ شعب فلسطين، وحول حركته الوطنية الى مجرد سلطة، وحينها كان عبد ربه مشاركاً في تمريره، بعد ان تم فرضه، وبعد ان تم عقده في مفاوضات سرية، من خلف الأطر الشرعية ذاتها.

فوق كل ذلك فإن هذه الأوضاع تثير الأسئلة حول شرعية النظام الفلسطيني القائم على قاعدة المحاصصة مع فصائل لم يعد لها وجود، من حيث المبنى والمعنى والدور، علما أننا نتحدث عن فصائل ليس لها أي مبرر تاريخي أو نظري أو نضالي، وعن طبقة سياسية تتحكم بالمجلس الوطني وتهيمن على «فتح» والمنظمة، منذ الستينات ومعظمها في الثمانينات والسبعينات من العمر. هكذا مضى على عضوية ياسر عبد ربه في اللجنة التنفيذية أكثر من أربعة عقود، وهذا ينطبق على محمد زهدي النشاشيبي وأبو اللطف، في حين أن أبو مازن في قيادة حركة «فتح» منذ نصف قرن، وهو في قيادة المنظمة لأكثر من ثلاثة عقود، وفي رئاسة السلطة منذ عشرة أعوام، وحتى الآن لا يوجد له نائب، وهو رئيس السلطة والمنظمة و»فتح»!

على ذلك حريّ، في هذه المناسبة، طرح أسئلة من نوع: لماذا بقي هذا وذاك في القيادة؟ وكيف؟ ثم ما هي الإضافة التي مثلها؟ وكيف تم عقد اتفاق أوسلو من وراء الشعب الفلسطيني، وأطره الشرعية؟ وكيف تم إلغاء بنود من «الميثاق الوطني» في اجتماع هو أقرب إلى مهرجان؟

وكما ذكرت، فإن استقالة ياسر عبد ربه ليست الأولى من نوعها، فقد سبق أن استقال الشاعر محمود درويش ومدير مكتب منظمة التحرير في لبنان شفيق الحوت من منصبيهما في اللجنة التنفيذية كرد على اتفاق أوسلو، وعلى الطريقة التي تم تمريره بها، وحينها استقال، أيضاً، الوفد المفاوض، الذي كان يرأسه حيدر عبد الشافي، وكان يضم في عضويته حنان عشراوي، عضو اللجنة التنفيذية حالياً. وفي حينه كتب درويش: «منظمة التحرير انظروا إليها جيداً: إن مؤسساتها ودوائرها ومكاتبها عاطلة من العمل. إنها معروضة للبيع في المزاد... أنا لا أطالب بأكثر من تنظيم إدارة النهاية، في شكل يضمن للناس كرامتهم وآدميتهم... هذه المنظمة قد انتهت... وعليكم أن تعترفوا بذلك... سواء ذهبتم بالتسوية السياسية حتى النهاية، أو خرجتم من التسوية الآن. إن دور المنظمة الباقي هو التوقيع على الاتفاق مع إسرائيل، وفور التوقيع ستتحول إلى شيء آخر...». أما شفيق الحوت فكتب: «لم يعد سراً على أحد ما تعانيه منظمة التحرير من أزمات سياسية ومالية وتنظيمية، تتحمل مسؤوليتها القيادة الراهنة... أعترف بأنه لم يعد في استطاعتي، وكذلك غيري من الزملاء، أن نتحمل مسؤولية قرارات تصدر باسمنا من دون علم لنا بها... هذا ما لا يمكن القبول به أو تحمل مسؤوليته...».

لكن الاستقالة الأكثر دوياً كانت لمحمود عباس من منصبه كرئيس للحكومة عام 2003، وحتى من قيادة «فتح» (تراجع بعدها)، إذ بعث وقتها برسالة غاضبة إلى الرئيس عرفات، يحمله فيها المسؤولية، ويشرح سبب استقالته، التي جاء فيها: «هذه الحكومة تعرضت لأبشع أنواع التحريض والتشويه ووضع العقبات والعراقيل في طريقها... بما في ذلك استباحة الدم والإهانة والتخوين والتعرض لسمعتنا... وما دمتم مقتنعين بأنني كرزاي فلسطين وأنني خنت الأمانة، ولم أكن على قدر المسؤولية، فإنني أردها لكم لتتصرفوا بها.» (www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/5799_0.pdf)

وحينها لم يكتف أبو مازن بذلك إذ قدم عرضاً مسهباً في اجتماع المجلس التشريعي ذكر فيه أنه تعرض لحملة تشكيك بأمانته السياسية والأدبية، ومن ضمنها انه جاء إلى رئاسة الحكومة بطلب أميركي وضد إرادة عرفات، وانه يعمل ضد المصلحة الفلسطينية، وشكا من افتقاده حكومته للصلاحيات.

ثمة ثلاثة استنتاجات هنا. أولها، أن الكيانات الفلسطينية التي انطلقت في الستينات وصلت إلى نهاياتها، من جهة خطاباتها وبناها وأشكال عملها ووسائل كفاحها، وهذا تأكد أكثر منذ التحول من حركة تحرر إلى سلطة في الضفة والقطاع، فنحن إزاء جسم آخر مختلف كلياً. وثانيها، أن القيادة الفلسطينية متحررة إزاء شعبها، بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، ولعدم وجود المجتمع في إطار اقليمي موحد، ولأن الطبقة السياسية الفلسطينية لا تعتمد في مكانتها ونفوذها على شعبها. وثالثها، أن مشكلة الفلسطينيين لا تتعلق بالذهاب نحو هذا الخيار أو ذاك فقط، وإنما بحال الترهل والتآكل التي تعاني منها بناهم التي تفتقد الروح المؤسسية والنضالية وعلاقات الديموقراطية والتمثيل، كما تفتقد تقاليد المساءلة والمحاسبة. والواقع فإن وجود بنى حية، وعلاقات ديموقراطية، وكادرات تمتلك الحد الأدنى من المسؤولية، من شأنه تقليل الخروج عن المسار الوطني، أو تدارك مخاطر ذلك إن حصل، أو أقله المحافظة على البيت.


* كاتب فلسطيني