التاريخ: تموز ٥, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
في نقد السردية «الثورجية» الجديدة - محمد الحدّاد
الثورة ليست غاية بذاتها، وإنما هي حالة استثنائية، محلّها في التاريخ مثل الزلازل والبراكين في الجيولوجيا، تحدث عندما تتراكم المشاكل لفترة طويلة وتنغلق سبل الإصلاح. لذلك، لا يمكن لأحد أن يشعر بالزهو لمجرّد أنّه ثائر، ولا أحد مؤهلاً أن يتخذ من الثورية لقباً أو مهنة أو برنامجاً سياسياً. المهم هو ما يحصل بعد كلّ ثورة: هل تجد المشاكل التي دفعت إليها حلولاً أو بداية حلول أم لا؟ في الحالة الأولى، تعتبر الثورة ناجحة. وفي الحالة الثانية، قد ينجح «الثورجيون»، أولئك الذين اتخذوا الثورة مسلكاً للربح والغنيمة، لكن الثورة تكون قد فشلت.

والثورات العربية الحالية بدأت تخلق أساطير ضارّة ينبغي التخلص منها سريعاً قبل أن تكبر وتعشّش وتصبح داء يصعب استئصاله، ولا بدّ من مواجهة هذه الأساطير ولو آذى ذلك بعضاً من أصحاب المشاعر والتطلعات الثورية الصادقة. وبما أنه ليس أفضل من التحاكم إلى الوقائع لتفكيك الأسطورة، فإننا نذكّر على سبيل المثال بما يلي:

أولاً، الثورات الحالية ليست أوّل موجة ثورية في التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط، لقد سبقتها ثلاث موجات على الأقل انتهت إلى الفشل الذريع. فقد أطلقت عبارة «الثورة العربية الكبرى» على الهبّة المسلحة التي قامت أثناء الحرب العالمية الأولى للتخلص من الهيمنة العثمانية وإنشاء إمبراطورية عربية كبرى، لكن فشلت ثورة 1916 في إنجاز وعودها ولم تستفد من تهاوي الخلافة لتأسيس الدولة القومية الجامعة، بل انتهى بها المآل إلى تقسيمات سايكس-بيكو المذلّة والتجزئة الاستعمارية المعروفة.

ثم تلتها في الستينات حركات رفعت شعار الثورة ووصلت إلى الحكم في مصر وسورية والعراق واليمن وليبيا، ووعدت بتحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين وفرض العرب قوة دولية، فضلاً عن التخلص من الفقر والجهل والتخلف. وقد انتهى أمرها إلى أنظمة دكتاتورية بشعة آخرها ذلك الذي يواصل التمسك بالحياة في دمشق بعد أن خرّب البلد على رؤوس ساكنيه. ثم انتعش سوق الثورة مجدّداً في نهاية السبعينات بما حصل في إيران، وبدا أنّ تحويل الثورة من أفق عربي إلى أفق إسلامي، ومن العسكر إلى رجال الدين، سيجعلها أقدر على تحقيق الأهداف المرجوّة. وها أنّ آخر مآلاتها اليوم التحالف مع مخلوع اليمن وجزّار سورية واستجداء أوباما ليرفع الحظر الاقتصادي عن طهران.

ولئن كانت الموجة الثورية الرابعة التي نعيشها حالياً قصيرة العمر لم يحن بعد وقت تقييمها، فإنّ الحصيلة الهزيلة للحصاد الثوري الذي بدأ منذ 1916 يدفع إلى كثير من التواضع والواقعية في التعامل مع وقائع اليوم. فلقد عاشت أجيال متعاقبة على سرديات «ثورجية» لم تقدّم ولم تؤخّر من الأمر شيئاً.

ثانياً، حذار من النظريات التي تزعم أن الثورات كلها تمرّ بمرحلة خراب كبير قبل أن تنجح، قياساً على تطورات الثورات الكلاسيكية الكبرى في إنكلترا وأميركا وفرنسا. إنّه قياس مع وجود الفارق فلا يستقيم ولا ينفع. ذلك أنّ الثورات الكلاسيكية حصلت في بلدان كانت قد شهدت قبلها نهضة شاملة فرزت الليبرالية الاقتصادية والفلسفة والعلوم الحديثة واكتشاف القارة الأميركية الغنية بالذهب وطرق التجارة البحرية التي فتحت الطريق لكل ثروات العالم، فلم تبق إلاّ الأنظمة السياسية متمسّكة بجمودها ومحافظتها، فقامت تلك الثورات الثلاث بدكّها والتخلّص منها.

ولقد قامت تلك الثورات في مجتمعات كان قد ظهر فيها كوبرنيك وغاليلي وماجلان وكولمب وكلود برنارد ونيوتن وكانط وشكسبير وفولتير، أما المجتمعات التي لم ينشأ فيها أمثال هؤلاء، فإنها تخلع زيد لتنصّب عمرواً، وكلاهما خريج ثقافة الانحطاط والانتهازية. فلا يكون العنف في التجربتين مؤدياً إلى نفس النتيجة. ولقد كتبنا وكرّرنا منذ بداية الثورات العربية الحالية أنّ الصحيح تصنيفها ضمن الثورات السياسية، مثلما حصل في أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية وفي أميركا الجنوبية بعد التخلص من أنظمة العسكر وما وقع في أفريقيا الجنوبية بعد انهيار نظام التمييز العنصري.

فالثورات في هذه الحالة بداية مسار وليست حلقة أخيرة في مسار نهضوي شامل، تطلب الجهد والكدّ لتبلغ بعض أهدافها لأنها ورثت خزائن خاوية واقتصاديات رثة ومستويات تعليمية متدنية. ومن دون ذلك البذل والمشقة تبقى الثورة سردية فارغة يتلهّى بها الشعب عن مشاكله المزمنة بدل حلّها.

ثالثاً، إذاً كانت الموجة الثورية الأولى قد ارتطمت بعائق الاستعمار، والثانية بعائق الحكم الفردي، فإنّ الموجة الحالية تردّت في مستنقع التعصب الديني الذي قد يكون وظّف ضدّها من أطراف عدّة لكنّه لم ينزل عليها من السماء، بل هو جزء من ثقافتها العميقة، له امتدادات راسخة في التاريخ، منذ الخوارج والحشّاشين ومقتل ابن المقفع والحلاّج، وله روافد حديثة عناوينها الحاكمية والتكفير والجماعة والأمير، وجزء من هذا وذاك معشّش في أذهان بعض من فرضوا أنفسهم جزءاً من الثورة، ولعلهم كذلك، فاختلط مفهوم الثورة بالدمار والذبح والسبي واستسهل تبرير التوحش باسم الثورة (مثلاً، كثيراً ما تستعمل قناة «الجزيرة» تعبير «المعارضة السورية» وهي تتحدّث عن «القاعدة» و «داعش»). فقضية التطرّف والإرهاب والتدمير باسم الربّ ليست حاشية على متن الثورة بل هي قضية اخترقت منها النخاع، إما أن تفصل عنها بعملية قيصرية أو نخسر أوطاناً ونحن نلاحق سراب الثورة.

رابعاً، لا قيمة لنظرية المؤامرة في تفسير الأحداث، لكن توجد وقائع تفرض نفسها من دون أن تحتاج إلى مؤامرة. فمثلاً، كيف يمكن أن تضعف دولة، أية دولة كانت، من دون أن تصبح مجالاً مفتوحاً لكلّ التدخلات والتأثيرات والأطماع؟ هذه ليست مؤامرة لكنها نتيجة منطقية. فلا يمكن بعدها طرح أي تحليل أو استشراف أو تحديد حكم أو موقف من دون أخذها في الاعتبار. بعبارة أخرى، سؤال «ماذا نريد؟» مرتبط بالضرورة بسؤال «ماذا يراد بنا؟».

هذه بعض تحفظات منهجية على السردية «الثورجية» السائدة، مع استمراري في توجيه التحية لكلّ الذين يسعون إلى النهوض بأوطانهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه كي لا تسقط في الفوضى والدمار، هؤلاء هم الثوّار الحقيقيون.