في 10 آب (أغسطس) 2013، نشرت شيري بيرمان مقالة مهمة في «نيويورك تايمز»، قارنت فيها بين سلوك «الليبراليين» عقب ثورة 1848 في فرنسا وثورة 2011 في مصر، وخلصت إلى أن خوفهم من راديكالية الشيوعيين في الحالة الأولى، ومن هيمنة «الإخوان المسلمين» في الثانية، تسبّب في إحباط الثورتين وتعطيل المسار الديموقراطي.
وتفيد هذه المقارنة في فهم أحد جوانب ما حدث في 30 يونيو على رغم وجود عيبين أساسيين في تحليل بيرمان. أولهما، أنها حصرت دوافع القوى الديموقراطية من الدعوة إلى تظاهرات 30 يونيو، في الخلاص من «الإخوان المسلمين». وأنتج هذا الاختزال عيباً ثانياً، هو إغفال أن معظم تلك القوى كان مدفوعاً بالسعي إلى إنقاذ المسار الديموقراطي الذي فتحته ثورة 25 يناير.
كان موقف القوى الديموقراطية المصرية في 2013، أكثر تعقيداً مقارنة بنظيرتها الفرنسية في 1852، ليس بسبب فرق الزمن فقط، ولكن نتيجة اختلاف البيئة الاجتماعية – الثقافية بتناقضاتها وتفاعلاتها أيضاً.
لذلك، يصعب اختزال موقفها في 30 يونيو في «حالة انتحار» بفعل تسلّط الخوف من هيمنة «الإخوان»، على رغم صحة ذلك بالنسبة إلى بعضها. فقد أراد معظم هذه القوى المحافظة على ديموقراطية وليدة، وإنقاذ بلد بدا مستقبله مهدَّداً. غير أن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها سهَّلت تهميش دورها، فلم تحصد إلا الهشيم بعد عامين.
لقد وقعت القوى الديموقراطية في سلسلة أخطاء، جعلت لحظة نجاحها في مقاومة هيمنة «الإخوان» في 30 يونيو، هي نفسها لحظة فشلها في تحقيق الهدف الأساسي لهذه المقاومة، وهو إنقاذ المسار الديموقراطي وتعزيزه.
كان خطأها الأول الذي وقعت في مثله قوى ديموقراطية مرات في التاريخ الحديث، هو أنها بقيت أسيرة أيديولوجياتها الضيقة، وهوّنت من شأن القوى المضادة للثورة، واكتفت بترديد ادعاء تمثيلها الشعب من دون أن تبذل جهداً كافياً للحفاظ على التفاف قطاعات شعبية واسعة حولها، في الأسابيع التي أعقبت تأسيس «جبهة الإنقاذ الوطني» في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012.
غير أنــه مــا كان لهذا الخطأ النمطي المتكرر أن ينتج آثاره الراهنة إلا لاقترانه بسلسلـــة أخطاء ترتب بعض أهمها عليه، بدءاً من التلكؤ في قيادة الاحتجاجات الشعبية التــــي انطلقت بعد ساعات على إعلان تلك الجبهة، والتخبط في إدارة الصراع خلال الشهور التالية، والانشغال بخلافات بين بعض أطرافها وعدد من قادتها، بخاصة محمد البـــرادعـــي وعمرو موسى، وانغماسها في الأحداث اليومية من دون بلورة رؤية أبعد. لذلك، لم تجد قوى مضادة لثورة 25 يناير صعوبة في إعادة تنظيم نفسها اعتماداً على إمكاناتها المالية الهائلة، والصعود بسرعة إلى صدارة المشهد للمرة الأولى منذ تلك الثورة.
وأدى ذلك تدريجياً إلى تغيّر في ميزان القوى لمصلحة هذه القوى، التي لقيت دعماً من بعض أجهزة ما يُطلق عليه «الدولة العميقة»، ونجحت في استقطاب مجموعات من الشباب المحسوب على ثورة 25 يناير، في غفلة من بعض القوى الديموقراطية واستهانة من بعضها الآخر.
مع ذلك، كان في إمكان القوى الديموقراطية محاصرة آثار هذه الأخطاء في بداية مرحلة التحوّل بعيد 30 يونيو، لأنها ظلّت هي مصدر الشرعية الأساسي للتغيير الذي حدث ونفى صفة الانقلاب عنه.
غير أن الأخطاء تواصلت في تلك المرحلة، بدءاً بتفويض البرادعي ممثلاً وحيداً لـ «جبهة الإنقاذ»، على رغم ضعف حسّه السياسي وقلة خبرته وحداثة عهده في هذا الميدان.
ويتحمّل البرادعي المسؤولية الأولى عن إفلات الفرصة الأخيرة التي أُتيحت للقوى الديموقراطية للتأثير في المسار السياسي في الأسابيع التالية لـ30 يونيو. فقد انفرد باتخاذ قرارات خاطئة من دون أي تشاور مع قيادة «جبهة الإنقاذ»، بدءاً بقبوله موقعاً هامشياً في الاتصالات التي قادت إلى بيان 3 تموز (يوليو)، كما في مشهد إعلان هذا البيان. فلم يدرك البرادعي الأهمية التاريخية لهذا المشهد، والارتباط الوثيق بين دلالته الرمزية وآثاره السياسية في موقع القوى الديموقراطية في المسار المترتّب عليه.
وعلى رغم أن تفويضه لم يكن يجيز له حسم خلاف بين القوى الديموقراطية على مبدأ المشاركة في أي جسم سياسي يتشكّل بعد 30 يونيو، فقد حصل على منصب نائب الرئيس الموقت، وقاد عملية تشكيل حكومة اختار رئيسها (حازم الببلاوي) وتسعة وزراء فيها من المحسوبين على هذه القوى. وكانت تلك «هدية» تلقّفتها القوى المضادة للثورة، فحشدت كل إمكاناتها لاستغلال ضعف أداء الحكومة ورئيسها في تشويه صورة القوى الديموقراطية، وشنّ هجمة شرسة على السياسة في حدّ ذاتها، توطئة لشيطنتهما في آن معاً.
ومثلما انفرد البرادعي بقرار إشراك القوى الديموقراطية في سلطة 30 يونيو، أسرع إلى مغادرتها وترك البلاد في لحظة مؤلمة خلال فضّ اعتصامي «رابعة» و «النهضة»، بدلاً من أن يتحمّل مسؤوليته ويسعى من خلال موقعه التنفيذي، إلى وضع حدّ لصراع دموي ما زال مستمراً. وكانت استقالته «هدية» أخرى تلقّفتها القوى المضادة للثورة لشنّ حملة هائلة، مؤداها عجز القوى الديموقراطية عن تحمّل المسؤولية، الأمر الذي شوّه صورتها شعبياً، وأضعف موقف وزرائها في الحكومة، فاضطر معظمهم إلى قبول تمرير إجراءات فتحت الباب أمام تراجع المسار الديموقراطي.
وساهم تصاعد الإرهاب الدموي بدءاً من منتصف آب 2013، في خلط الأوراق، ودعم الاتجاه إلى تشديد القبضة الأمنية، في الوقت الذي توالت أخطاء القوى الديموقراطية وصولاً إلى قبولها، بل دعوة بعضها، إلى إجراء الاقتراع الرئاسي قبل الانتخابات البرلمانية التي كانت لا تزال قيد الانتظار. هكذا بدت القوى الديموقراطية تائهة، بعدما انتهت المهمة التي جمعتها في إطار «جبهة الإنقاذ»، فتفكّكت أوصالها مجدداً. وفيما رحب قليل منها بأي تغيير يضمن عدم عودة «الإخوان»، ولم يبالِ آخرون بالأجواء الخانقة التي صنعتها القوى المضادة للثورة، وخضع فريق ثالث منها لأمر واقع أخذ يفرض نفسه، لم يبقَ إلا قطاع صغير في هذه القوى قابضاً على موقفه.
وعلى رغم كل هذا الاختلاف في مواقف القوى الديموقراطية بعد 30 يونيو، فقد حصدت كلّها الهشيم نتيجة تراكم أخطائها التي تنطوي على دروس ثمينة لم تستوعبها بعد. |