في شكل نسبي، يُعد الائتلاف السوري المظلة السياسية الأكثر شرعية لتمثيل القوى الاجتماعية والسياسية السورية المناهضة للنظام، ليس فقط بسبب خطابه وسعة انتشاره وضمه أكبر طيف من القوى السياسية المتنوعة، ولكن بالضبط لأنه الأكثر جدية في مناهضته الفعلية لنظام الأسد، والأقدر على المماحكة وخلق التوازن السياسي الحقيقي معه.
ضمن هذا السياق، ما الذي يفسر مشاركة الكثير من «الشخصيات» السياسية التأسيسية والمركزية في هذا الائتلاف في اجتماع القاهرة الأخير للمعارضة، والذي كان واضحاً بجلاء ميله لسحب شرعية التمثيل، أو جزء منها، من الائتلاف، وخلق استقطاب إقليمي مواز أو مضاد للائتلاف المتهم من رعاة الاجتماع بالميل للقطب التركي.
كيف تُفسر تلك المشاركة، فيما تعرف الشخصيات التي شاركت أن تحطيم الائتلاف وخلق استقطاب مع قوة إقليمية غير واضحة الموقف من النظام، لن يساهما سوى بالمزيد من التعكير والاضطراب في وحدة الصف في المواجهة الجدية للنظام.
من التعليل الذي ساقه هؤلاء المشاركون («نشارك بصفة شخصية») تبدو واضحة طبيعة الدافع النفسي والسلوكي وراء سلوكهم. فالميل القوي للظهور، بمعزل عن النتائج والأثمان، هو ما يشكل دافعاً. وهذا يطابق ما كانت دراسات علم الاجتماع قبل ربع قرن في أوروبا والولايات المتحدة قد أسمته «النزعة الماكدونالدية»، حيث يسيطر الشغف بالأكل والحضور في الأماكن العامة والتصوير والنشر وممارسة البهجة الجماعية خارج المنزل، من دون أي اهتمام بالأضرار الصحية بسبب نوعية الأطعمة، واللامبالاة بمساوئ تلك السلوكيات على روح العائلة وتواصلها وتضامنها أثناء وجباتها اليومية المنزلية.
قد يبدو ذلك مبرراً إلى حد ما بالنسبة ليافعين سوريين كثيرين تراكب انخراطهم في «الحياة العالمية» مع اندراجهم في الثورة، حيث شكل «فرط» الرغبة بالسفر والحضور والعلاقات العامة إغراء عاماً ومفهوماً لديهم. لكن أن تغدو هذه النزعة مجالاً وشكلاً حياتياً و «روحياً» وإيديولوجياً شاملاً لنُخب سياسية من المفترض أنها تمثل ملايين المواطنين الذين يخضعون لأفظع عملية إبادة آدمية في العصر الحديث، ففي ذلك مؤشر خطير إلى خلل شرعية هذا التمثيل وصحية هذه العلاقة.
يشكل سوء العلاقة بين القواعد الاجتماعية السورية، سواء في الداخل أو دول اللجوء الإقليمية، محدداً أولياً لفهم هذا النمط من السوء. فهذه النُخب بغالبيتها معزولة ومغتربة عن القواعد، وأغلبها صعد إلى المراكز التي هو فيها راهناً نتيجة لواحدة من ثلاث ديناميات ناتجة عن سوء تعبير أو تمثيل لهذه القواعد. فإما هي نُخب صعدت نتيجة كثافة ظهورها في الإعلام، وبالذات في الفترات الأولى للثورة. أو هي نُخب اغتربت أو كانت مغتربة بالأساس مع عائلاتها، ثم استخدمت جملة قدراتها وعلاقاتها العامة لتصل إلى ما هي عليه، حيث لا تشكل سورية ومأساة السوريين منغصاً حياتياً ووجودياً لهم، وعلاقتهم بالشأن السوري أقرب ما تكون إلى امتهان تجاري، وربما ترفيهي، الغرض المركزي منه تحقيق الذات والحضور والسلطة المادية والرمزية. أما الدينامية الثالثة فتتعلق بشبكة علاقات هذه النُخب بالأجهزة السياسية والاستخباراتية للدول الإقليمية.
مجموع تلك الدوافع يشكل مصدراً لسوء التمثيل والتضامن، مما يربط هذه النُخب بالقواعد الاجتماعية السورية.
لكن البعد الآخر لفهم تلك النزعة «الماكدونالدية» يتعلق بسوء العمق الأيديولوجي/ العصبوي الذي يشكل سلطة عليا لسلوكيات هذه النُخب. فالعصبوية الوطنية السورية التي يُفترض أن تشكل أعلى تجلٍ أخلاقي وسلوكي لديها، ليست كذلك، وهذا تبعاً لاختلافها عن المركبات العصبوية الجهوية أو الأيديولوجية أو الطائفية أو الإثنية وصولاً إلى الحاراتية. فهذه النخب تشعر بسوء ولاء عميق لسورية، والكثير منها لا يتورع في التعبير عن ازدرائه لمجتمعاتها الوطنية الداخلية. ولم ينتج ذلك عن اغتراب وسوء تمثيل وتبنٍ من قبل هذه النُخب فحسب، بل لطبيعة النظام الطغياني العنيف الذي حكم سورية لفترة مديدة، وأغرق المجتمعات الداخلية بالتحطيم الممنهج والزبائنية وسلوكيات التقية السياسية، ما أفقدها القدرة على توليد الممثلين المطابقين السياسيين أو الاجتماعيين.
أثناء مؤتمر القاهرة الأخير للمعارضة، نشر أحد المشاركين صورة «سِلفي» لنفسه مبتسماً، وخلفه كثيرون من شركائه/ خصومه السياسيين المفترضين، معلقاً: «من قلب المعركة»!
فما يبدو، في المسألة السورية راهناً، أن ثمة «معارك» من أنماط مختلفة تماماً، وأن ثمة «محاربين» من عوالم أكثر اختلافاً.
* كاتب سوري
|