التاريخ: حزيران ٢٨, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
نحو حل توافقي للقضية الكردية - علي العبدالله
يعيش أبناء الشعب السوري، الكرد والعرب خصوصاً، حالة مؤلمة من التوتر والاحتقان على خلفية تداعيات الوضع في المناطق المختلطة. فالكرد، الذين عاشوا ظروفاً شديدة القسوة نتيجة إنكار هويتهم القومية والتشكيك بوطنيتهم على خلفية مطالبتهم بحقوقهم، كجماعة قومية متميزة، والاعتراف بحقهم ودورهم في إدارة السياسة والمشاركة في صياغة القرار الوطني، رأوا مصلحتهم في الانفصال عن السياق العام للثورة السورية وشق طريق خاصة للحصول على هذه الحقوق والمطالب المحقة.

وهذا عمق حالة الحذر والشك لدى شريك الوطن: العرب، وأثار هواجسهم ومخاوفهم من تكريس الانقسام وتفكيك الوطن المشترك، لكن رد فعل العرب جاء نمطياً وخارج اللحظة السياسية ومترتباتها، فلم يأخذوا في الاعتبار المرحلة وظروفها وعادوا إلى ثقافة مشوهة أساسها إنكار التعدد القومي في الكيان السوري وعدم الاعتراف بحق شركاء الوطن في ممارسة تميزهم والعيش وفق معطيات ثقافتهم الخاصة، وهو ما كان نظام القهر والاستبداد قد كرسه طوال عقود حكمه وحوله «حقيقةً» لا تقبل النقد أو الشك.

في كتابه «الدولة والمجتمع في المشرق العربي» عرض الدكتور غسان سلامة صورة دقيقة لما فعلته الأنظمة «القومية» بثقافة شعوبها: «تسأل العراقي هل أنت بعثي فيجيب بالنفي لكنه في إجاباته عن بقية الأسئلة يرد بإجابات بعثية».

لقد تمت مواجهة التحرك الكردي الخاص بمزيج من الخوف والإدانة والتشهير به باعتباره خيانة وطنية مرفوضة من دون التفات إلى طبيعة المسألة وسياقها التاريخي في ضوء التجربة العينية التي عاشها الكرد في ظل النظام «القومي» العربي، واللحظة السياسية الراهنة، وفق منطلقات الثورة وما نادت به وسعت إلى تحقيقه من عدالة ومساواة في ظل نظام ديموقراطي، من دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو المذهب. وأول مستدعيات هذا التوجه الاعتراف بالتعددية القومية والدينية والمذهبية والتعاطي معها على قاعدة الندية والاحترام المتبادل.

لقد نسي معظم العرب السوريين ما فعله النظام بالمجتمع عموماً وبالكرد خصوصاً وضرورة تفهم تحركهم وملاقاته بصيغة ملائمة تخفف حالة العداء وتنفس الاحتقان وتضع أساساً مقبولاً لحل توافقي يرضي الطرفين، وأطراف الكيان السوري الآخرين، ويرتب حالة استقرار سياسي واجتماعي. فاتفاقات الإرادة الناقصة، وفق تعبير الاستراتيجيين، والقائمة على الإرغام أو عدم الرضا وصفة لزرع قنبلة في البناء الوطني تجعل انفجار الصراعات والحروب الأهلية تحصيل حاصل.

وهذا المأخذ يشمل سلوك الكرد وتوجههم لفرض حل خاص من دون مشورة شركاء الوطن وأخذ هواجسهم ومخاوفهم في الاعتبار ووضع تبدل الظروف وتوازن القوى في الحساب حتى تكون المحصلة مقبولة وتدفع باتجاه الاستقرار والازدهار.

ينظر الكرد إلى أنفسهم على أنهم أمة مكتملة التكوين، ومن الطرائف التي شهدها الوضع الشاذ القائم على إنكار التعددية القومية في سورية أن محكمة أمن الدولة العليا السيئة الذكر وخلال محاكمتها الناشطين الكرد، كانت تصنفهم تحت عنوان «كردي عربي سوري». ويعتبر الكرد أن من حقهم تحقيق طموحاتهم القومية أسوة بكل أمم الأرض، في حين ينظر إليهم شركاء الوطن، معظم العرب السوريين، كخارجين عن الإجماع وخونة للعرف الوطني، من دون تفكير في أس القضية وسياقها والتعاطي الأخوي مع أبنائها، شركاء التاريخ والمصير. فالخريطة السياسية التي رُسمت للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى فرزت وضعاً فيه غبن وينطوي على عناصر تفجير وعدم استقرار، فالدول التي نشأت نتيجة لاتفاقات سايكس – بيكو عاشت حالة تناقض: فهي غير راضية على الخريطة ومتمسكة بها في آن. فالعرب ضدها لأنها، بعرفهم، قسمتهم وأفقدتهم أجزاء من أرضهم: فلسطين، وهم ضد المساس بها خوفاً من خسارة أراض جديدة لمصلحة الكرد. والأتراك ضدها لأنها انتزعت منهم ولاية الموصل الغنية بالنفط (لم تكن القوات البريطانية عند عقد هدنة رودس يوم 30/10/1918، احتلت كل أراضي الموصل، فقد دخلتها يوم 8/11/1918 وسمح ذلك للأتراك بالادعاء بأن ولاية الموصل جزء من تركيا، لكن عصــبة الأمم ثبتت ولاية الموصل كجزء من العراق، وجعلت الحدود العراقية - الـتركية حدوداً نهائية وفق ما سمي خط بروكسيل).

وهم ضد المساس بها، لأن المساس بها قد يفقدهم مساحات من الأرض لمصلحة الكرد والعرب والأرمن إلخ... والإيرانيون، وهم من خارج جغرافية خريطة سايكس - بيكو، ضدها، لأنها قيدت تطلعاتهم للعودة إلى حدود الإمبراطورية الفارسية، وضد المساس بها لأن المساس بها قد يفقدهم أراضي لمصلحة العرب والكرد والأذربيجانيين والبلوش. الكرد وحدهم ضد الخريطة، ومع إعادة النظر فيها كي يأخذوا حقوقهم في أرض ودولة أســوة باعتباره شعباً أصيلاً في المنطقة ومن رعايا السلطنة العثمانية التي قسمت إلى دول وفق معايير قومية.

لذا، غدا إنشاء دولة للكرد يعني إعادة النظر في حدود تركيا وإيران والعراق وسورية، وهذا وحّد هذه الدول لمنعهم من الوصول إلى أهدافهم، والحيلولة دون إنشاء دولة كردية مستقلة على ما تعتبره هذه الدول أجزاء من ترابها الوطني. وقد زاد القانون الدولي من تعقيد القضية لاعتماده قاعدة سياسية قائمة على الاعتراف بالدول القائمة وهذا وضع الشعوب التي لم تقم دولة خاصة، كالكرد والفلسطينيين، والمطالبة بدولة في خانة الخارجين على القانون، ما سمح لأنظمة هذه الدول بإساءة معاملة الكرد دستورياً وقانونياً، ورتب نشوء مشكلة كردية في هذه الدول، ومنح القوى الإقليمية والدولية الطامحة والطامعة بثروات المنطقة وموقعها الاستراتيجي فرصة اللعب على التناقضات واستخدام مظلومية الشعب الكردي ذريعة للضغط والابتزاز السياسي والاقتصادي.

يستدعي الخروج من عنق الزجاجة وتحاشي الانزلاق إلى حروب مديدة تفهم التطلعات القومية والاعتراف بها والتعامل معها بدلالة صياغة مستقبل مستقر وآمن للجميع وهذا يقود إلى الانخراط في حوار جاد ومسؤول لإيجاد حل سلمي متفق عليه قائم على الاقتناع والرضا.