التاريخ: حزيران ٧, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
سليماني والبغدادي والجولاني إلخ...- عمر قدور
إذا صحّت الأنباء التي أشارت إلى أن منتسبي الفصائل السورية «المعتدلة»، في برنامج التدريب الأميركي في تركيا، فوجئوا بطلب توقيع وثيقة أميركية تتضمن الالتزام بقتال «داعش» فقط، الأمر الذي لم تبادر الإدارة إلى نفيه، فذلك يعني أن المفهوم الأميركي للاعتدال ينص على قتال «داعش» من دون قتال الأسد. ومع أن النيات الأميركية لم تكن سراً في الأصل فإن موضوع الوثيقة يضعها خارج الغموض «غير البنّاء» الذي طبع تعاطي الإدارة مع الملف السوري. باختصار، تبدو الإدارة كأنها تتهيأ للدخول إلى الساحة من باب إنشاء ميليشيا من المرتزقة خاصة بها، تكون مجردة من الأجندات الوطنية.

في الوقت نفسه، كانت الصحافة الإيرانية أول من أعلن عودة قاسم سليماني إلى سورية، هذه المرة مدعوماً بآلاف من قوات الحرس الثوري والحشد الشيعي العراقي، فضلاً عن ميليشيا حزب الله الموجودة سابقاً. وجهة هذا الحشد معلنة، وهو لن يقترب من خطوط التماس مع «داعش»، فما توعد به موالو النظام صراحة أن الهدف القادم استعادة مدينتي جسر الشغور وإدلب لحماية الساحل، بينما تتفرغ ميليشيا حزب الله لمعركتي عرسال والقلمون، وما أشيع بعقلانية أكبر يقتصر على دعم الصمود في معقل النظام. ومع أن الميليشيات الشيعية شاركت بالقتال على نحو ظاهر منذ سنتين ونصف السنة، فالإعلان الأخير عنها يضعها للمرة الأولى في الصدارة، فهي لم تعد حليفة لقوات النظام كما كانت تُسوّق إعلامياً. لقد تقدم الأصيل بعد فشل الوكيل.

لا حاجة أيضاً للتذكير بأن «داعش» يحتل نصف الأراضي السورية، ويخوض معارك عنيفة للسيطرة على الريف الشمالي لحلب وعلى مدينة الحسكة، مثلما تنتفي الحاجة للتنويه بأن الجولاني، قائد جبهة النصرة، لم يزح اللثام عن وجهه في إطلالته التلفزيونية، ولم يعلن انفكاكه عن تنظيم القاعدة كما كان متوقعاً أو مأمولاً من قبل البعض. الجولاني أرسل تطمينات للغرب بأنه لن يهاجمه، وهي أهم من التطمينات المشروطة التي منحها للسوريين على صعيد حرية الرأي والعقيدة، لكن من يكترث حقاً بطمأنة السوريين!

البراميل المتفجرة التي ازداد معدل استخدامها من قبل قوات النظام، في ظل صمت دولي شبه تام، تؤكد من جديد ألاّ أحد يكترث بالسوريين. لكن لا يقل أهمية عن ذلك أن السوريين بغالبيتهم لم يعودوا كذلك، ومجيء الحشد الشيعي الأخير قد يكون حاسماً في قصم ما تبقى من شعرة تلك الصفة المعنوية «السورية» التي تجمعهم، وبقائها ضمن مفهوم الجغرافيا الطبيعية ليس إلا. ليس بالأهمية ذاتها هنا ما إذا بقيت البلاد موحدة أو خضعت للتقسيم، فالعبرة في أن التقسيم سيكون قد أنجز على الصعيد النفسي، بحيث لن يكون قابلاً للردم على المدى المنظور.

قبل أربع سنوات، كان يمكن ردّ العديد من المظاهر الطائفية إلى وعي الأزمة، وكان يمكن للتفاؤل أن يتسرب من أن الحل المنشود سيعيد الوعي العام إلى قدر من الاعتدال الذي يتطلبه العيش المشترك. غير أن التخلص من وعي الأزمة، أو حتى رؤية أصحابه له بوصفه انفعالاً موقتاً، يتطلبان رؤية أفق للحل، وهذا ما لم يتوفر للسوريين طوال تلك المدة، ولن يتوفر قريباً مع تكاثر الاستثمارات الخارجية في الساحة، من دون تحميلها وزر ما يحدث والنظر إلى الصراع باعتباره حروباً بالوكالة، إذ لا ننسى أن طرفاً داخلياً أساسياً هو النظام له الريادة في إدخال الميليشيات الأجنبية.

هناك ظاهرة يجدر التوقف عندها: يخرج الجولاني أو البغدادي بتصريح فيكسب بشار الأسد. يخرج بشار الأسد أو حسن نصر الله بلقاء أو خطاب فيكسب الجولاني أو البغدادي. على السطح فقط يسعنا القول إن كل واحد من هؤلاء لا يستطيع كسب أنصاره إلا بدلالة الخوف من الآخر، أما عندما تتسع وتتعمق دائرة الخطر الوجودي فهي تصبح معروضة لشتى المستثمرين. اليوم مثلاً لم يعد من معنى للحديث عن خوف أقلوي بمبررات تاريخية قديمة، لأن الحساب العددي لا يعود له معنى مع التحالفات الخارجية العضوية ومع امتلاك السلاح الأفضل. أيضاً، لم يعد من معنى للحديث عن الأكثرية العددية بصفتها «الأمة»، فعندما تتوزع بين خطري الإبادة والتهجير لا تعود أكثرية في أرضها، وليس متوقعاً تحليها بوعي أكثري في ظل مخاوفها.

كُتب الكثير عن خطر التقسيم، وكُتب مثله عن خشية الإدارة الأميركية من تكرار النموذج العراقي، إلى أن تمخض الواقع عما هو أسوأ من المخاوف. فخطر التقسيم، لو تم حقاً منذ التلويح به، كان سيوفر دماء مئات آلاف الضحايا، ونموذج انهيار النظام العراقي لو تكرر لما أتت عواقبه بأشد مما حصل فعلاً. أي متابع عادي للشأن السوري يعلم أن النظام انهار، ويعلم أن التقسيم حصل، وأن مئات «الصعاليك» ليس لهم وزن يُذكر في ميزان قاسم سليماني والبغدادي والجولاني. وأي متابع لوسائل التواصل الاجتماعي يلحظ مقدار ما كسبه سليماني والجولاني مؤخراً، حتى لدى شرائح كانت تنأى بنفسها إلى وقت قريب عن شبهة الطائفية. لقد كان الوضع صادماً عندما تحدثت تقارير الإدارة الأميركية في بداية الثورة عن عشر سنوات من الحرب في سورية. الآن تتحدث الأوساط نفسها عن مدة لا تقل عن تلك لمواجهة «داعش»، أي أن القوة الدولية الوحيدة القادرة على الحل لديها جدول زمني خاص بها، وإذا صدقت أوساط الإدارة في تقديراتها، فذلك يعني أننا لم نقطع بعد الشوط الأول من المعركة. المدة المتوقعة، وفق هذه التقديرات، ستجعل الحديث لاحقاً عن حل سوري نكتة لا تنتمي إلى الواقع، ولن تنتمي إلى الواقع أية إملاءات تفرض على «الشعوب» التي تشكلت، أو اكتشفت نفسها، في سورية أثناء الحرب.

إثر الخسائر التي تعرض لها النظام نشطت الديبلوماسية الدولية، وعاد إلى الصدارة الحديث عن حل سياسي. مع مجيء قاسم سليماني وميليشياته تراجع الاهتمام الدولي الطارئ. هذا هو المؤشر الوحيد الصادق والملموس حالياً، وما تبقى خاضع لميزان القوى المتبدل. المؤشر الآخر الملموس أن الحديث عن سورية الوطن والمواطنة، أو حتى سورية اللامركزية، صار مثاراً للسخرية أسوة بشعارات البعث الجوفاء.