التاريخ: حزيران ٧, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
المنطقة بين «الداعشيات» السنّية والشيعية ... أو العلمانية - خالد الحروب
نقترب بتسارع مذهل ومخيف نحو مفترق طريقين اساسيين، إشارة الأول تقول «حروب دينية طويلة، دموية وطاحنة»، والثاني تقول «كبح جماح الداعشيات السنّية والشيعية وموضعة الاجتماع السياسي في طريق التسيس المدني والعلماني». لا يعني المسار الثاني بالطبع ان امور السياسة وصراعاتها الطاحنة سوف تنتهي حالما يتم الولوج اليه، بل يعني ان السياسة والتسيس والصراعات والمنافسات سوف تندرج في أولية مدنية لا دينية. كما لا يعني هذا المسار ان الاستبداد والدكتاتوريات والفساد السياسي سوف تختفي كلها فور تبني المسار المدني العلماني. بل يعني ان النضال والمقاومة ضد كل تلك الآفات تكون قد اقيمت على قاعدة مدنية وقانونية بحتة، لا دينية. البديل عن المسار المدني العلماني هو الوقوع جماعياً في أتون مسار الحروب الدينية الدموية، التي نرى «بشائرها» امام عيوننا ونسير إليها بخطى راسخة!

في تأمل مآلات المنطقة وخياراتها المستقبلية المحدودة تشير شواهد الوقائع المتلاحقة وبكل أسف حزين إلى ان مسار الحروب الدينية والطائفية هو الاكثر احتمالاً. المدهش حقاً هو ان ملاحقتنا جميعاً لبيارق تلك الحروب وهي تخفق في بلدان عدة، لا تمنعنا من الركض خلفها ونحو الحتف الجماعي الذي ترسمه لنا وكأننا في حالة نوم مغناطيسي مذهلة. هذا المسار تقوده «الداعشيات» السنية والشيعية معاً، وخلفهما تلهث شعوب وأعلام ونُخب وحكومات وأحزاب سياسية. في فضاء كل من «المعسكر السنّي» و»المعسكر الشيعي» في المنطقة هناك الخطاب نفسه والتجييش والإقصاء والتكفير والاتهام بالعمالة لـ «المعسكر الآخر». تحليل الخطاب الديني والسياسي والإعلامي السائد يقود إلى النتائج نفسها تماماً مع تغيير مفردة «سني» او «شيعي» وحسب. المعمل الأساسي لخطاب التصفية والإقصاء يشرف عليه «داعشيو» السنّة و»داعشيو» الشيعة، ثم يصدّرون منتجهم القاتل الى بقية المعسكر بمتطرفيه ومعتدليه وحتى علمانييه، ويعيد هؤلاء استنساخه وإنتاجه بسذاجة قاتلة. في مناخ كهذا لا يحق لك حتى لو كنت علمانياً صافياً لا يؤمن بخلط الدين في السياسة ان تأخذ الحياد او أن ترفض الانجرار إلى مستنقع الطائفية وعفونة خطابه وتصنيفاته. تختفي كل المساحات الرمادية والهوامش ويُحشر الجميع بين فكّي كماشة الأسود والأبيض: من ليس معنا فهو ضدنا، وعلى المذبح غير المقدس لهذا الشعار يتم نحر العقلانية والتعقل والاختلاف.

تأمّلُ حالة «التدعوش» الجماعي التي ننحط إليها وباستخدام قليل من التعقل تقودنا إلى توكيد جملة من الأفكار الإنقاذية التي دعا إليها كثير من مثقفي العرب منذ اكثر من قرن من الزمن، وكثير منهم لا يزال. الفكرة الأولى والأهم هي كارثية خلط الدين مع السياسة سواء من قبل الحكومات والأنظمة او الحركات والأحزاب الإسلامية. في كلا الحالتين وبحثاً عن شرعيات مفقودة في الحالة الأولى، وتأسيساً لخطاب يوظف التدين الشعبي في الحالة الثانية، أزيح الجزء الأعرض من السياسة وعلى مدار عقود طويلة الى مربع الدين. وهناك تم تديين السياسة واعتبارها مكوناً من مكوناته المعاصرة، فصار الحكم والمعارضة والانتخابات وما تعلق بالممارسة السياسية شأناً دينياً. في المرحلة الأولى من هذه السيرورة ظنّ اللاعبون الأساسيون الذكاء الخارق في أنفسهم لجهة توظيف الدين والإبقاء على مقاليد السيطرة على نواتج جانبية مُتولدة من هذه العملية الخطيرة. وعلى مدار قرن تقريباً اعتاشت أنظمة ودول وحركات ومنظمات على مسألة الشرعية الدينية للعمل السياسي الذي تقوم به، وبدا في حقب طويلة أن هذه العملية غير مُضرّة، بخاصة أنها ارتبطت بالدول المعتدلة الى حد ما، وكذلك بإنتاج حركية اسلامية معتدلة الى حد ما مقارنة بما نشأ وتطور في حقب تالية. بيد ان ما كان يحدث تحت السطح المخاتل في اعتداله كان بالغ الخطورة ومدمراً. إذ باستخدام الآلية ذاتها (توظيف الدين في السياسة) التي احتمت بها أنظمة أو استغلتها حركات الإسلام السياسي نمت في الظلام وفي جنبات وزوايا الفشل السياسي والاقتصادي وتواصل القهر وانعدام المستقبل تنظيمات وأفكاراً بالغة التطرف. ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي على أقل تقدير لم يتوقف نمو وزيادة عدد وتنوع هذه التنظيمات التي انخرطت في سباق مع نظيراتها في اظهار التشدد والتطرف، والإدعاء بأنها تمثل الإسلام الصحيح، وإن غيرها ومهما كان متديناً وإسلامياً (دولة، أو أفراداً، أو حتى حركات إسلامية أخرى) مارق عن الدين او منافق. على ذلك يمكن عملياً الزعم بأن بدايات تشكل «داعش» تذهب الى هناك، من ناحية الشكل المتطرف العام، ومن ناحية التوظيف الدموي للدين لتحقيق اهداف سياسية.

لكن لم يكن لـ «الداعشية»، بشقيها السنّي والشيعي، ان تنجح لولا المناخ العام الذي وفر لها كل مكونات الحياة والنمو والتطور السريع. في مقدمة ذلك المناهج التعليمية والدينية وخطاباتها في المنطقة، وبخاصة في دول المشرق. ذلك انه رغم التطور التحديثي الذي انخرطت فيه الدول العربية فقد بقيت المناهج التعليمية جامدة، وأسيرة خطاب ديني متكلس وأحادي يوفر العناصر التكوينية الأساسية لأي تطرف لاحق. ففي كثير من مناهج التربية الدينية في عدد كبير من الدول العربية لا نجد اختلافات كبيرة عن تلك المناهج التي تدرسها التنظيمات المتطرفة لاتباعها من ناحية إقصاء الآخر، والنظرة الحصرية الضيقة، والزعم بتمثيل الدين النقي، وسوى ذلك. وفي الحقيقة فإن ما تضيفه «الداعشية» على ما يتلقاه كثير من الطلاب في المدارس الرسمية العربية هو استخدام السلاح والتفعيل العملي لما كانوا قد تعلموه نظرياً وتشغيله في الميدان.

ترافقت تلك البنية المحلية في الخطاب الديني والتعليمي مع فشل حكومي ودولتي بارز في المنطقة لجهة استكمال بناء مجتمعات ناجعة اقتصادياً وعلمياً، وناجحة في مواجهة الأعداء الخارجيين وبخاصة اسرائيل، ومتحدية للأطماع الدائمة للقوى الكبرى في ثروات البلدان. ثم جاءت ثورة الخميني لتزيد من خصوبة أرض التطرف وتتحدى الخطابات السنّية المتطرفة بخطاب شيعي أكثر تطرفاً، وتتوعّده بتصدير الثورة وتصيير إمامها إماماً على كل المسلمين سنّة وشيعة. وهكذا تفاقمت كل الظروف المستقبلية والموائمة للطائفية التي نعيشها اليوم، بخاصة بعد حرب العراق وانفلات الغول الطائفي فيه، بما خلق كل التحالفات والبيئات المطلوبة والأسباب الداخلية والخارجية لإنتاج ونمو «الداعشية».

والنتيجة الكارثية التي نحياها ونشهدها اليوم بامتياز تقود إلى وضع أكثر كارثية. وليس ثمة حل بعيد الأمد أمام شعوب وحكومات ودول المنطقة إلا الابتعاد الحقيقي والفاعل، وبعد الشواهد التي تفوق الحصر الآن، عن خطورة ودموية خلط الدين بالسياسة. هذا الخليط متفجر ولغم دائم الاشتعال ولا يتوقف عن قتل وحصد مستقبل الأفراد والشعوب. والعلمانية التي أنقذت الغرب من ويلات الحروب الدينية وقرونها الطويلة هي وحدها التي ترسم حدود الاحترام بين السياسة والدين إلى الحد الممكن والنازع لفتيل الانفجارات المتتالية. كل من يستلم السياسة باسم الدين سوف يزعم أن السياسة التي يقوم بها هي دين ولخدمة الدين. وكل من يمسك الدين وعينه على السياسة فإن كل ما يقوم به من دين يستهدف به أجندته السياسية، وبالتالي يغرق الجميع في ما نشهده من غرق. التحدي الكبير الذي يواجه هذه المنطقة هو ألاّ تكرّر تاريخ أوروبا وتحاول أن تهرب من السيناريو «الداعشي» المظلم الذي ينتظرها وهو الحرب الدينية الطويلة. إنه تحدي العقلاء كي يقفزوا إلى دفّة القيادة وينحّوا «دواعش» السنّة والشيعة وينقذوا السفينة من الغرق المحتّم.


* كاتب وأكاديمي عربي