عندما تطل مراحل التغيير الكبرى حاملة التحولات على مجتمعات من الصعب أن تصمد أنظمتها، يتحول ذلك، في جانب منه، إلى صراع حول التأقلم مع التغيير. بل يدخل المجتمع في فترات من التدمير الجزئي أو الشامل تعبيراً عن التغيرات والغضب المصاحب لها. فكما سقط الاتحاد السوفياتي المبني على أسس ثابتة في بداياته القوية، تسقط أوضاع عربية في وحل التغيير وتناقضاته. في المراحل العاصفة تتعمق مخاوف الناس مما يحيط بها ويتصاعد عنف الأنظمة وإجراءاتها في محاولة لاستعادة المبادرة. لكن عنف الأنظمة وإجراءاتها المتشددة والتي تعكس طريقتها في التنظيم والتفكير هي التي تعود ثانية وتسهم في انتشار المتطرفين ونمو مدارس اليعاقبة (نسبة إلى متطرفي الثورة الفرنسية) الذين يرون في الأوضاع الجديدة فرصة للإسراع في فرض خيالهم الثوري. في المراحل المتحولة ينتشر الحريق في مسارات متعددة، وقلما تستوعب القوى المسيطرة معنى التغيير وكيفية التعامل معه لأنه يطرح عليها أعباء لم يسبق لها أن واجهتها في تاريخها السياسي. أثناء التحول تسقط عادات وتتغير طرق وتقتل البراءة بينما تنبعث مدارس جديدة منها المغالي والمعتدل والسلمي والثوري والمجدد والجنوني. في هذه المرحلة لم تعد تنفع التطمينات والتبريرات التي تعيد كل الأخطاء إلى مجموعة متطرفة لا سلطة لها.
في هذا المشهد من يشعر بالظلم اليوم ينتقم لمظلوميته بعد عام. لهذا لم يأت عنف «داعش» من فراغ، فالعراق يعيش العنف منذ ثمانينات القرن العشرين، والعنف في سورية هو نتاج عنف ممنهج اتبعته الدولة. العنف الجهادي هو الآخر عنف لم يبرز من شرور متأصلة في الدين أو في الشخصية العربية بل من جراء أوضاع سياسية واقتصادية وقمعية عازلة. فكل عنف ينتج شبيهاً له وأحياناً نقيضاً أسوأ منه، وكل إغلاق للمساحة العامة ينتج من يريد فتحها بالقوة والتحدي مما يضر بمكانة الدولة التي اعتمدت قوانين يتحداها الناس لضعف عقلانيتها وتناقضها مع الحقوق الأساسية. العنف العربي بجنونه ردة فعل على التهميش والإهانة وإغلاق المساحة العامة وضعف الحوار والتعليم ومركزه السياسي والمالي والنفوذ الذي تتحمل مسؤوليته الأنظمة قبل الشعوب والحركات. لكنه أيضاً نتاج سياسات رسمية لم تعطِ جل الاهتمام للمشروع الوطني في بناء الدولة، بل أمعنت على مراحل في تفكيك الدولة والطبقة الوسطى الصاعدة (الأمل لبناء وطن متجانس) وضربت مع الوقت أسس الاقتصاد المستقل في ظل الاعتماد المبالغ به على الخارج. أمراض اليوم زرعت منذ عقود، وهي أمراض تذيب واقعنا وستبقى تفككه بمستويات ودرجات مختلفة.
لقد سقط النظام العربي القديم بالتحديد منذ بداية ثورات ٢٠١١، وهو لم يسقط مرة واحدة، بل كما يبدو من المشهد فقد سقط على مدى عقد وأكثر من الزمان وذلك لأسباب داخلية شعبية وسياسة وإقليمية بل ودولية. لقد سقط النظام العربي في الجوهر لأنه لم يعدّ العدة للمستقبل، ولأنه اتكل على القوة وأدواتها وأهمل العقل والتنمية، واعتمد كثيراً على الغرب وليس على الشعب، وعلى البطش وقلما على الرحمة. لهذا بالتحديد نحن في بداية نهاية أسلوب في الحكم يقوم على تهميش وتفتيت أغلبيات شعبية في ظل دور مضخم للأمن وللجيوش في السياسة والاقتصاد. عالمنا يتغير بسبب تراجع الهيمنة التي تمارسها قلة من الأفراد والمؤسسات التنفيذية المتضخمة الصلاحيات على مؤسسات أخرى قضائية وبرلمانية واقتصادية وإعلامية.
ما نحصده الآن لا ينفع معه عنف تمارسه أنظمة كما هو الأمر بالنسبة إلى ما يقع في سيناء أو الأحكام المبالغ فيها في القاهرة أو العنف الشامل وسط العراق مع «داعش» وفي سورية واليمن، بل ربما ينفع عنف الأنظمة والتحالفات والدول في احتواء بعض الظواهر وتأخير بعض المخاطر والحالات، لكنه في الوقت نفسه سيجعل الأوضاع أكثر تفجراً وردود الفعل أكثر تطرفاً، قبل أن تتمدد أو تتغير تلك الظواهر وتأخذ أشكالاً جديدة مختلفة. لن ينفع مع الأوضاع الجديدة تغير كتب وضخ مناهج جديدة أو حتى تدمير بنى تحتية وحرق مناطق ومدن وضواحٍ. كل هذا تم تجريبه في التاريخ ولم ينفع في زمن التحول.
النظام العربي في مأزق، بل حتى لا يمكن مقارنته بالأنظمة الديكتاتورية التي انتشرت في الأرجنتين والتشيلي وفي آسيا، وذلك لأن تلك الأنظمة مارست درجة عالية من التنمية ورعاية الطبقة الوسطى وشجعت عناصر هامة على استقلاليتها، بينما مارس النظام العربي درجة أشمل من السيطرة في ظل الفساد وغرور القوة وضيق الأفق، مما أضر بالتنمية والفئات الضعيفة والوسطى في المجتمع. ما يقوم به بعض الأنظمة بحق الشعوب وخاصة كما نشاهد في سورية يعكس طريقة في التفكير هي أحد أهم أسباب التفكك العربي، ففي العالم العربي مدارس رسمية كارهة للشعوب وكارهة للتجديد. لقد أنتج النظام العربي في معظمه وفي أغلب حالاته فشلاً متراكماً، وهو في هذا نجح في مخاطبة هزيمة ١٩٤٨ عندما احتلت إسرائيل الأرض العربية وشردت الفلسطينيين وهزمت الجيوش.
ولو نظرنا إلى الجيوش العربية التي يجري الآن الحديث عن توحيدها كقوة ضاربة للتدخل السريع، سنكتشف أننا أمام جيوش يمكنها إيقاف بعض التدهور لفترة من الوقت، لكنها لن تستطيع الوقوف أمام زحف التاريخ. جيوشنا العربية لم تخض حرباً ضد عدو خارجي منذ حرب ١٩٧٣ (باستثناء الحرب العراقية الإيرانية)، بينما الحروب التي خاضتها كانت ضد شعوبها كما هي حال السودان مثلاً والعراق وسورية واليمن وليبيا وغيرها. حتى في سيناء تعاني التجربة العسكرية المصرية من الضعف والقصور وبطء التعلم. الجيوش العربية جيوش تقليدية تسيطر على اقتصاديات دول وهي شريك لقوى الأمن والفساد في الوضع الداخلي مما يجعلها جزءاً من المشكلة وليس الحل. إن الجيوش بالأساس مشتتة في أمور لا علاقة لها بالجيش والدفاع عن الحدود كحال دول مثل بريطانيا وفرنسا تمنع الجيوش من التدخل في الحكم والأمن والاقتصاد. الجيوش العربية تدافع عادة عن حكومة محددة أو نظام سياسي محدد، أو حاكم لا بديل عنه، وتأخذ لقاء ذلك امتيازات تفصلها عن الشعوب وتجعلها أقل إقبالاً على التضحية. لهذا أصبحت الجيوش العربية هشة وضعيفة وبالإمكان إسقاطها بسرعة، فما وقع في الرمادي مؤخراً حيث تغلب عدد قليل من المقاتلين غير النظاميين من «داعش» على جيش جرار، ليس الأول من نوعه وهو بالتأكيد ليس الأخير، وهذا ما تعرفه جيداً القوى المتطرفة في المنطقة العربية.
وتتعارك الرؤى في هذا الفراغ العربي الكبير كما تتواجه المدارس المتناقضة، فـ «الدولة الإسلامية» (داعش) يحاول تمثيل بعض الناس والسيطرة على أراض في سورية والعراق، وهو في الوقت نفسه يطرح «خلافة» ورؤى يتعطش لها قطاع من الناس، لكنه يواجه بمعارضة قوية من قوى معارضة شعبية مسلحة كما الأمر مع المعارضة السورية. كذلك تحاول المملكة العربية السعودية ملء الفراغ من خلال سعيها لقيادة الخليج والإقليم بعد «عاصفة الحزم»، بينما تسعى قوى أخرى في اليمن كالحوثيين لفرض منظورها في وضع يمني يزداد تعقيداً ولن يقوى على إيجاد مخرج قريب. وتحاول قوى سياسية عربية مختلفة تحقيق تقدم في تصوراتها ومنظورها. من إيران إلى تركيا والسعودية ومن الشارع العربي وحركات الشعوب وتعبيرات العنف وتحركات الجيوش يحاول كل طرف فرض تصوره وتأسيس مكانته في ظل وضع متقلب لن يحتمل الرؤى الأحادية.
في أجواء كهذه تكتسب القبيلة والطائفة والفئة والدين والجماعة بعداً مختلفاً، فمن ذا الذي لا يريد الاحتماء بمكونات سياسية سابقة للدول حين تفشل مؤسسات الدول في حماية المجتمع وحين تكون الدول محتكرة سياسياً وتنفيذياً وإدارياً ومالياً؟ في ظروف كهذه يذهب الناس إلى ولاءاتهم الأساسية التي تتشكل من الدين والقبيلة والطائفة والمذهب والفئة والحي والشارع والمنطقة، ويصبح هذا بحد ذاته مدخلاً لتعويض فشل الدولة ومؤسساتها.
قطاع من العرب يعتبر سحق الطرف الآخر مخرجاً له من المأزق، بينما قطاع آخر مقتنع بأن المخرج يتطلب تسويات سياسية متداخلة تسمح للجديد بالبروز والتعبير عن ذاته. المخرج ما زال بعيداً، فالحروب ستستمر والصراعات تمر على العرب كما مرت من قبل حروب القارة الاوروبية في الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين خلفتا وراءهما الدمار والموت. سنصحو ذات صباح ونكتشف المخرج، وسيكون في حينها إنسانياً وديموقراطياً، ولكن ليس قبل دفع ثمن الاستبداد المؤدي إلى التوحش والكراهية.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
|