من الواضح أن النظام الإيراني ما بعد الشاه استلهم الكثير من تاريخ المنطقة القديم والوسيط والحديث، سواء من جهة تحديد ركائز استراتيجيته، أو من جهة اعتماد أيديولوجيا تمكّنه من بلوغ أهداف الاستراتيجية المشار إليها، واستخدام آليات تترجم كل ذلك واقعاً على الأرض.
فقد وجد هذا النظام، بعد تصفيته للقسم الأكبر من كوادر المؤسسة العسكرية الشاهنشاهية، ونتيجة الحظر الغربي عليه من جهة السلاح، نفسه عاجزاً عن مواجهة النظام العراقي في ذلك الحين والذي كان يشكّل عائقاً معرقلاً لتوجهه التوسعي. غير أن المتغيّرات في أفغانستان والعراق، جاءت لتخدم النظام المعني، وتمكّنه من دفع الأمور في العراق، بالتعاون مع النظام السوري، نحو الفوضى العارمة المنظّمة، بهدف التحكّم بمفاصل الدولة العراقية، خاصة بعد انسحاب المكوّن العربي السني من العملية السياسية، ومراهنة الولايات المتحدة على وجود قوة قادرة على ضبط الأمور، والتحكّم بها.
ومن هنا كان التساؤل دائماً، عند تناول العلاقة بين الغرب وإيران، عن سر تجاهل الوضع الداخلي الإيراني، وعدم التركيز عليه مع أنه يمثّل كعب آخيل بالنسبة إلى النظام الإيراني. فهناك قضايا كبرى تخص الشعوب الإيرانية كالقضية الكردية وقضية عرب الأحواز والبلوش، وغيرها من قضايا مختلف الشعوب الإيرانية، هذا إلى جانب مطالب الإصلاحيين وقضايا الشباب والمرأة بالنسبة إلى المجتمع الإيراني بكل مكوّناته وانتماءاته.
وإثارة هذه القضايا كان من شأنها إرباك الجناح المتشدّد في النظام الإيراني، ومنعه من الاستمرار في نهجه التوسعي الرامي إلى زعزعة استقرار المجتمعات المجاورة، بهدف إشغالها بقضايا داخلية، تكون عوناً له يمكّنه من تجاوز متاعبه الداخلية، والتعتيم عليها.
ويبدو أن دول المنطقة اعتمدت هي الأخرى أسلوب الدفاع السلبي، ولم تلوّح بإمكانية استخدام أوراق قوية مقابل تدخلات النظام الإيراني في أدق التفاصيل الخاصة بها وبمجتمعاتها. ولعلّ من المناسب هنا أن نتناول، مثلاً لا حصراً، طبيعة التعامل الإيراني مع قضيتين محوريتين من قضايا المنطقة، وهما: القضية الكردية والقضية الفلسطينية، ونقف في الوقت ذاته على ماهية ردود أفعال دول المنطقة التي لم ترتق إلى المستوى المطلوب.
أما بالنسبة للقضية الأولى، فتمكّن النظام الإيراني عبر توثيق العلاقات مع الجناح العسكري ضمن حزب العمال الكردستاني، والتحكّم بتوجهاته عبر الدعم المقدم له، وعبر بناء العلاقات الوثيقة مع أوساط مؤثرة ضمن الاتحاد الوطني الكردستاني، من تحييد دور العامل الكردي إلى حدٍ كبير في المجتمع الإيراني، على رغم حجم القضية وتاريخها ورمزيتها بالنسبة إلى الكرد جميعاً. فالكرد في كردستان إيران يبلغ عددهم نحو عشرة ملايين، ولهم تاريخ طويل في النضال من أجل حقوقهم في ظل الأنظمة الإيرانية المتعاقبة. وقد تحالف الكرد مع الخميني ضد نظام الشاه، أملاً منهم أن يكون ذلك مقدمة لرفع الظلم عنهم، وتأمين حقوقهم المشروعة، وذلك بناء على وعود حصلوا عليها ولم تنفذ، وإنما كانت الحصيلة اغتيال الزعيم الكردي الإيراني الدكتور عبدالرحمن قاسملو عام 1989، أثناء المفاوضات معه بخصوص إمكانية الوصول إلى حل سلمي للقضية الكردية في إيران. وبعد ذلك كانت عملية اغتيال خلفه صادق شرفكندي عام 1992. وللمصادرة على أي احتمال لردود أفعال كردية، لجأ النظام المعني إلى دعم حزب العمال الكردستاني مقابل إسهامه في تجميد النضال الكردي في كردستان إيران والتحكّم بالورقة الكردية في سورية والتدخّل في الشؤون الداخلية في كردستان العراق، وتهديد تركيا بالورقة الكردية.
وما ساعد النظام الإيراني على المضي في استراتيجيته هذه تمثّل سياسياً في تعامل دول المنطقة مع القضية المعنية بوصفها مشكلة منغّصة لا بد من التعاون الإقليمي، حتى مع إيران نفسها، من أجل إلغائها إن أمكن، أو على الأقل المصادرة على مخاطرها.
هذا في حين أن التعامل الواقعي مع الأمور كان وما زال يستوجب التعامل مع القضية المعنية بوصفها واحدة من القضايا الأساسية في المنطقة، تعالج عبر احترام الحقوق والخصوصيات، وهي قضية تمس الأمن والاستقرار الإقليميين، كما تؤثر بصورة مباشرة في قضايا التنمية والتقدّم ومستقبل الأجيال في مجتمعات المنطقة.
أما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فأدرك النظام الإيراني أهميتها في الوجدان العربي الإسلامي عموماً، لذلك سعى من أجل تبنيها عبر نزعة شعبوية، تجسّدت في شعارات حماسية كانت غطاء للتدخل في الأوضاع الداخلية اللبنانية والفلسطينية، ودعماً للنظام السوري الذي استغل هو الآخر الورقة الفلسطينية في سعيه من أجل الإطباق على الداخل الوطني. وكانت القضية المعنية غطاء للتستّر على ممارسات النظام الإيراني الاضطهادية بحق عرب الأحواز، وإنكار حقوقهم، والتدخل في شؤون دول الخليج، واستمراره في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، وتحوّله إلى شريك أساسي في اتخاذ القرار في كل من العراق ولبنان وسورية واليمن، وربما في دول أخرى لم يحن الوقت للإعلان عنها.
إن مواجهة الاستراتيجية الإيرانية لن تكون ناجحة فاعلة باعتماد الحزم العسكري وحده، فذلك سيدخل المنطقة في دوامة من الصراعات والحروب التي لن تنتهي في المدى المنظور، كما سيدفع بالمنطقة نحو سباق عبثي للتسلّح يبدّد الإمكانيات، ويعرقل مشاريع التنمية التي لا استغناء عنها في أي سعي جاد يرمي إلى نهوض المنطقة والقطع مع التطرف والإرهاب بكل أشكالهما.
المواجهة المعنية لا بد أن تأخذ في اعتبارها أيضاً الواقع الداخلي الإيراني نفسه، وهذا فحواه دعم الجهود الرامية إلى الإصلاح والانفتاح على المجتمع بكل مكوّناته المذهبية والقومية، وتوجهاته الفكرية، الأمر الذي سيشكّل مقدمة فعلية للانفتاح على مجتمعات الإقليم ودوله بعقلية بنّاءة مسؤولة، تحترم الآخر المختلف، وتبحث عن القواسم المشتركة في سبيل البناء عليها، وتطويرها لمصلحة الجميع.
فقضايا المنطقة معقدة متداخلة، تستوجب حواراً وتواصلاً، كما تستوجب استراتيجيات متكاملة، تأخذ بعين الاعتبار حريات وكرامة وحقوق وخصوصيات الأفراد والجماعات، استراتيجيات تتطلع نحو المستقبل وأجياله، وتترك الماضي بتبايناته وخلافاته العقائدية والسياسية لكتب التاريخ، واهتمامات الباحثين المحايدين، بعيداً عن كل تجييش أو تطييف. |