بين المهتمين بالصورة في سورية سجال متموج، يشبُّ حيناً ويخبو حيناً، حول عرض صور الأجساد المحطمة أو المحروقة، والأشلاء وفديوهات التعذيب ومشاهد القتل، أو عموماً حول صور السوريين في انكشافهم الكبير على أنفسهم وعلى العالم طوال 50 شهراً ونيف. قبل شهور نشر «أبو نضارة»، وهو تجمع سينمائيين سوريين ينتج فيلماً قصيراً واحداً كل أسبوع، بياناً أدان فيه «تمريغ كرامة» الناس «من خلال عرض صور أجسادهم المعذبة على شاشات العالم دون موافقتهم، الأمر الذي يسيء لكرامة السوريين والإنسانية جمعاء»، وبنى على ذلك مبدأ «حق الإنسان في صورة كريمة أياً كانت الظروف». وأطلق التجمع أيضاً مبادرة عنوانها: صورة السوري ما بتنذل! والعنوان مبني، مثلما هو معلوم، على غرار شعار رفع في تجمع احتجاجي باكر في دمشق قبيل الثورة، وهتف فيه المتجمعون: الشعب السوري ما بينذل!
وبين وقت وآخر يجري التعبير عن التحفظ عن مشاهد صادمة يجري تداولها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أو تضمينها في أعمال فنية، منها مثلاً فيلم أسامة محمد ووئام بدرخان «ماء الفضة»، حيث تتكرر صورة ولد سوري عارٍ يجري تعذيبه وإجباره على تقبيل حذاء معذّبه، ثم يتعرض لانتهاك جنسي، وفي الفيلم أيضاً مشهد جر جثث شهداء في الشارع بكلاليب مربوطة بحبل من قبل مقاومين لا يستطيعون نقل الجثث بطريقة أخرى، خوفاً من رصاص قناصي النظام. الصور صادمة ومذلة فعلاً، فما القول في شأن عرضها للعموم، أو التساهل في الأمر؟
وتجدد الكلام على الأمر بعد عرض صور من التي هرّبها «سيزر» لبعض من قتلهم النظام تحت التعذيب (55 الف صورة لـ11 ألف معذباً مقتولاً بين بداية الثورة وآب 2013)، وقد عرض قسم منها في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في آذار 2015، ويبدو أن كان مروعاً لمشاهديه. ورأى مثقفون وفنانون، منهم محمد علي الأتاسي، أن إعادة عرض الصور من قبل أي كان مشاركة في قتل الضحايا!
هذه، على أية حال، مساهمة في إثارة نقاش أوسع، تبدو ضرورية حول الصور، صورنا.
يمتنع، بداية، أن يُعزل موضوع عرض الصور والمشاهد المروعة عن الحال السوري الراهنة، وهي حال هول قيامي، فيها كثير من العنف والفظاعة والموت والدم والاستماتة والكراهية وجنون الثأر، والانحلال والتبعثر، ويبدو ممتنعاً أن تعود سورية إلى ما قبلها، وغير مرغوب أيضاً. يبدو كذلك ممتنعاً عزل عموم السوريين عن هذه الحال، وغير مرغوب بدوره. فهل بغير التحديق في وجه هذا الهول الرهيب وأوسع إحاطة به، بصوره وتفاصيله وحكاياته، يمكن أن نطور إدراكاً بجذرية وضعنا ومأساويته، ونطور فناً وفكراً وأخلاقيات مجبولة بتمثيل هذه الأوضاع المستحيلة؟ الصور موجودة قي مكان ما، صورها أحد ما مشكوراً، مخاطراً بنفسه في بعض الأحيان، ورآها بعضنا، فهل هم متلصصون على محرم، إن كانت الحيلولة دون العرض هي الشيء الصحيح؟ وكيف لنا أن ننمي ذاكرة تخص ما أصابنا من فظاعة إن كنا نتفادى، ما وسعنا التفادي، النظر في وجه الفظاعة؟ نتذكر كي لا نكرر ما جرى لنا، وكي نمارس حياله نسياناً إرادياً واعياً، نسيان من واجهوا أنفسهم ورأوا الوحش في داخلهم، وقرروا تقييده. ينسون ترفعاً عما يعرفون في أنفسهم وفي غيرهم. وهو ما لا يتأتى دون أن نحدق ملياً في صورنا لنطْبعها عميقاً في ذاكرتنا.
يطور المعترضون على النشر حججاً وجيهة، منها أن صور العنف والفظاعة تثير مشاعر الغضب ورغبة الانتقام، ويقال أحياناً أن بعض هذه الصور على الأقل سرّبها النظام عمداً لإثارة نوازع الثأر، وتحويل الصراع السوري إلى صراع طائفي ومطلق. لكن واضح أن الحال السورية أكثر جذرية وفظاعة من أن تكون الصور، مسربة بقصد أم لا، محرضاً أساسياً فيه. الصور جزء من الصراع، وقد تكون أداة من أدوات التعبئة والتحريض فعلاً، لكن منابع التحريض وفيرة، ومنها أولاً الحرب الفعلية الجارية، والمحارب الأول المزود بمضخات متفوقة للصور والكلمات والكراهية، فضلاً عن السلاح المتفوق، أعني النظام الأسدي. وهو ما يعني أن القول في شأن الصور تابع للقول في الصراع وسبل إنهائه. فلا مجال للتفكير في الصور دون مواجهة المعضلات الأكبر، الخاصة بمنابع العنف الوحشي في البلد، وبفرص التوصل إلى تمثيل سياسي مغاير لسورية والسوريين، وإلى دولة جديدة وثقافة جديدة. بعضنا غضبه يتوجه نحو الانتقام؟ نعم، هذا محتمل جداً، لكن يمكن لغضب بعضنا أن يتوجه إلى تفكير أكثر جذرية في شرطنا الإنساني والسياسي والثقافي، وإلى مساءلة نفوسنا وتاريخنا ومجتمعنا وثقافتنا عن هذه الفظائع. النقاش في شأن الصور يمكن أن يكون مساعداً في ذلك. يجب أن نرى لنتناقش.
يقال أيضاً أن نشر الصور يُطبّع موت السوريين وتحطم أجسادهم عالمياً. شيئاً فشيئاً، يمكن أن يرسخ في ذهن العالم أن السوريين يقتلون السوريين، أو أن هناك صراعاً طائفياً مميتاً في سورية، أو أن الأمور هي هكذا على الدوام في «الشرق الأوسط»، فتضيع قضايا العدالة والحق والمسؤولية، وتنطمس الأبعاد السياسية للصراع، ويجري الاعتياد على أن ما يأتي من سورية هو صور عنف وحشي تثير نفوراً متصاعداً، فلا يثير مزيد من الوحشية اهتماماً خاصاً. هذه حجة أقوى من سابقتها، لكنها تضع «العالم» و«ذهن العالم»، والمقصود عالم الطبقات الوسطى والعليا الغربية أساساً، في موقع تحكيمي غير مستحق. هذه الطبقات لا تكف عن تصفيح عالمها بالحجج والأفكار التي تحميها من الإحساس بقسوة الوجود في عالم اليوم، وتصون استقرارها الذهني والأخلاقي. أعتقد أنه يمكن مقاربة التطورات الفكرية والثقافية في الغرب منذ جيل واحد على الأقل من هذه الزاوية. أن يعيش المرء عمره في ظل أوضاع كفاية منظمة يكفي، على كل حال، لأن يصفِّح وضعه الممتاز هذا بما لا يقلق ولا يدفع إلى تغيير في النفس أو المحيط. وأعتقد أن من هذا التصفيح العيش داخل النصوص والخطابات بدلاً من مواجهة العالم وما يجري فيه من موت فظيع أو أفظع، ويقال إن كل شي نص أو لا شيء خارج النص، وبدلا من تفسير العالم، كيلا نقول تغييره على ما دعا ماركس في أربعينات القرن التاسع عشر، يغدو كل شيء تأويلاً. ثم إنه معلوم، بقدر ما يخص الأمر إقليمنا، أن معظم ما يقال عن موت السوريين اليوم، سبق قول ما يشبهه عن موت الفلسطنيين واللبنانيين والعراقيين.
ومن جهة أخرى، هذه الصور موجودة في مكان ما، ورآها أشخاص ما. هل كان مفضلاً فعلاً ألا تكون صورت؟ هل هناك من يجيب جاداً على هذا السؤال بنعم؟ وإذا وجدت الصور، ألا «تطلب» أن تُرى؟ ومن يقرر بشأن ما إذا كان يجوز نشرها للعموم أم لا؟ وأي صور منها هي التي تنشر، وأيها تحجب؟ لا بد من وجود جهة ما تقرر في هذا الشأن، لكن أخص خصائص وضعنا اليوم، وهو وضع أزمة أسس، أزمة افتداء أو «أزمة قربانية»، بعبارة رينيه جيرار في كتابه العنف والمقدس، ينهار فيها النظام الثقافي العام، ويتناثر في كل اتجاه، أن جهة شرعية كهذه ليست موجودة، ويمتنع وجودها طالما الصراع مستمر وبؤرة تفجره نشطة. الأزمة تطال الشرعية وتعلن دمارها، فلا يستطيع أي كان تحديد السلوك الصحيح والخيار الأنسب. وظاهر أننا بالفعل في وضع كهذا في سورية اليوم، إنها حالة استثنائية وتوجب مقاربات استثنائية. يجري التفكير في الأجساد المحطمة وفق منظور الأزمة الافتدائية كأحد أوجه العملية التحويلية الكبيرة، التي تؤسس لنظام جديد وثقافة جديدة. يوماً ما، قد يقرر السوريون، عبر نقاش عام ومشاركة جماعية، أن يطووا صفحة هذه المشاهد، في سياق طي صفحة الحرب والتفاهم عل أسس جديدة لسورية جديدة. لكن سيلزم إجراء تأسيسي في هذا الشأن: بناء أرشيف لهذه المواد، يجمعها ويمنع ضياعها ويصنفها ويبوبها، ويدرجها في عملية بناء ذاكرة وطنية جديدة، لا تحول دون النسيان فقط، ولكن تمتنع على الاستثمار الجزئي وتقاوم التوظيفات الاختزالية أو الانتقائية. وهذا لا يتحقق دون أن يكون الأرشيف شاملاً، لا يحذف شيئاً ولا يكبت شيئاً ولا يتعامى عن شيء. والأرشيف شيء يطوى، لكن الوصول إليه مفتوح للجميع. وإنما عبر عمليات النقاش وبناء الأرشيف نستوعب التجربة، نؤسس لتعافي الذاكرة الوطنية ولشرعية جديدة، ونظام جديد للمجتمع والسياسة والثقافة. الذاكرة المعافاة ليست ذاكرة تتجنب مواجهة الماضي أو تكبته في دهاليز النفس، بل بالضبط تضطلع به وتتعرف عليه وتقر بمسؤوليتها عنه.
وقد يكون مفهوماً من وجهة نظر السوري المقيم خارج بلده أن يشعر بالإهانة من عرضنا محطمين أمام عيون غير ودودة وغير متعاطفة. لكن أليس من خصائص الأزمة التأسيسية ذاتها أن الحدود بين داخل وخارج تمحى؟ وفي زمن ثورة الاتصالات، هل يبقى معنى لداخل وخارج أصلاً؟ الكرامة ليست تسييج حمانا في وجه متطفلين غرباء، بل أن نجد في عيون الغرباء تعرفاً على أنفسهم في غرابتنا القصوى، غرابة الأجساد المحطمة. كلنا غرباء.
سوف نكون في وضع أفضل من أجل التمثيل والعملية التأسيسية، والتعافي، إن واجهنا الفظاعة ونظرنا في وجهها، وليس إن تفاديناها. الفظاعة هي أقصى الغرابة، الأجنبية القصوى. والنحن المحال إليها في الجملة السابقة هي جيل الأحياء الذي لا بد أن يتحمل المسؤولية عن التأسيس الجديد، أن يقبل الإقامة في الفظاعة كي يطور تطعيماً عاماً ضدها. هذا الجيل هو جيلنا، أعني بخاصة جيل المشتغلين بالشؤون العامة المنتجين، من فنانين وصحفيين وكتاب وناشطين سياسين. ما نطوره من أفكار وفن وحساسية حيال صور الفظيع يمكن أن يكون بمثابة تطعيم وطني عام ضد تكرار الفظاعة. ولا أستطيع تصور هيئة عامة تقرر ماذا يرى من صور الفظيع وماذا لا يرى غير جيل بأكمله، الجيل الذي انغمر في الصراع بجوانبه المختلفة. وأول مسؤولية هذا الجيل أن يضع عينه في عين الفظيع، وأن يقول: أنا من فعلت ذلك!
وأعتقد أن ما يفوت الميالين إلى تقييد مشاهدة الصور وتداولها هو الطابع التأسيسي للأزمة السورية، والتفكير بمنطق أوضاع عادية، لا يسائل الثقافة القائمة ولا يعيد النظر في مفهوم الكرامة الإنسانية أو يفكر فيه. لا أرى لنا كرامة في غير الانطلاق من أننا حيال أوضاع غير مسبوقة، لن تكون سورية في منتهاها مثلما كانت، لا ككيان ولا كنظام ولا كمجتمع ولا كثقافة، وأن نجعل من هذه المحنة التاريخية فرصة تاريخية لتجديد إحساسنا وثقافتنا، وأن نعمل على تطوير معان وقيم تحيط بعنائنا المهول. وهو ما يوجب الاعتراف به والتمعن فيه، والعمل على تملكه. ليس هناك نهج أكثر جذرية لمقاومة غرابتنا، وذلنا، غير إدارك كم أن الغريب هو الإنساني، هو العام.
ككاتب، أعمل على تمثيل الحال السورية في الثقافة، لا أستطيع أن أفعل دون أن أتنبه إلى أقاصيها، دون أن أحملق في عين الموت العنيف. أجد مشقة في النظر إلى الأجساد المحطمة، ويغلب أن أشيح النظر عن صور وفيديوهات رهيبة، لكن أظن أن علي النظر وإنعام النظر. الفنانون والكتاب عليهم أكثر من غيرهم إنعام النظر في الأجساد المحطمة لأنهم عاملو اشتراك، ولأن الأجساد جسدنا المشترك وجسد بلدنا المشترك. إن كان من أمل في طفرة فكرية وثقافية وفنية تستجيب لشرط الثورة أو تتدارك تعثرها السياسي، فهذا يمر في تصوري عبر الاضطلاع بهذا الهول الذي عاشه السوريون. معظم عمال الثقافة كانوا محميين شخصياً من هذا الهول، فلا أقل من أن يعاينوه مصوراً ويحفظوا الأجساد المحطمة في أرشيفات أجسادهم هم.
السؤال في رأيي كيف نهضم كثقافة ومجتمع هذا الهول؟ كيف نتعامل معه؟ أظن أن التمثيلات الثقافية التي ننتجها عبر تجربة المهول والإقرار به هي أساس أنسب لمواجهته وبناء الحواجز القيمية والقانونية والفكرية الفعالة التي تحول دون تكراره، من تجاهله أو تضييق مساحة الاطلاع عليه أو حمايتنا من مذلة صورنا محطمين. يلزم أن نقر بكرامة وأمانة أننا فاقدون للكرامة منذ زمن طويل، سابق كثيراً للأجساد المحطمة في سنوات الثورة. من يعرف الأجهزة الأمنية، ومن يعرف التعذيب، ومن يعرف سجن تدمر، ومن يعرف المخبرين والوشاة، ومن يعرف الأسرة الأسدية وأتباعا مثل مصطفى طلاس وما لا يحصى من أشباهه من البلهاء السعداء، يعرف أن السوريين فاقدون للكرامة منذ عقود، ربما منذ حكمهم بطل كارثة 5 حزيران، ونصب نفسه إلهاً عليهم. بالعكس، إن الإجساد المحطمة هي أحد وجوه تمرد من أجل استعادة الكرامة. وهي تستحق أن تمثل في الفن وفي الفكر وفي الثقافة، ويجب أن تمثل.
ليس في كل ما سبق ما يلغي شرعية الاعتراض على تمثيلات فنية أو توظيفات سياسية محتملة لصور الفظيع. هناك فن جيد وهناك فن رديء، بصرف النظر عن الشرعية الأخلاقية والجمالية لتمثيل الفظيع، والنقاش حول الصورة الكريمة أو اللئيمة. المشكلة ليست في تصوير الفظيع، بل في كيفية تصويره، في التمثل الفني لهذا التصوير: كيف يُرسم؟ كيف ينحت؟ كيف يمثل مسرحياً وسينمائياً؟ كيف نتكلم عنه في الروايات والقصص؟ كيف نمثله مفهومياً؟ كيف يقاربه الشعراء؟ تساءل تيودور أدورنو إن كان الشعر ممكناً بعد أوشفتز، كحدث مطلق ممتنع على التمثيل. لكن هذا هو التحدي الذي يفوز الشعر بشرعيته عبر مواجهته. والتطلع المحرك لتمثيل الفظاعة هو العمل على إذابتها، نزع إطلاقيتها، والقول إنها مأساة عظيمة واجهناها في تاريخنا، لكنها ليست مأساة المآسي، ليست المأساة المطلقة. هذا ليس فقط لتجنب سيكولوجية هولوكوستية لا يبدو أنها تنفتح على عدل أو مساواة مثلما نعرف أكثر من غيرنا، ولا تثمر غير هولوكوستات مقسطة، بانتظار الهولوكوست الأكبر يوماً ما، ولكن كذلك لأنه عندنا، حيث تواجه الفنون تحدي شرعيتها من قبل قوى الطغيان الدينية، من شأن طفرة فقط في تمثيل الفظيع أن يمكنها من أن تكون عنصراً في ثورة ثقافية، لا تقطع مع الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية، وإنما تؤسس لمواجهة الإفقار الديني لعالم التمثيل والعدوان عليه. قصر التمثيل على اللغة، مثلما يفعل الإسلاميون، يحتاج إلى حملقة لا متناهية في الصور التي فقدت صورتها من أجل كسره.
وبالمثل، ليس لأن هناك توظيفات سياسية ضيقة محتملة لصور الفظيع نتخذ قراراً إدارياً (من نحن؟) بأن لا يعرض الفظيع على العموم. من أشكال التوظيف السياسي المغرضة مثلاً الاعتراض على بث صور وفيديوهات تصور ضحايا التعذيب والأجساد المحطمة ومجازر النظام، لكن مع الانتشاء بنشر صور وفيديوهات عن جرائم داعش والإسلاميين. ومنه العكس، التكتم على ما يخرج من صور عن جرائم الإسلاميين، مع احتفاء بورنوغرافي بصور جرائم النظام.
بيد أن كل ما سبق يطال النشر العام لصور الفظيع. نتناقش كمواطنين، كـ«عامين» بصورة ما، نفكر في الفظاعة بوصفها شأناً سورياً عاماً، يتصل بنظمنا السياسية والاعتقادية والاجتماعية، وبتاريخنا، وبمستقبلنا. لكن ماذا عن وقع الصور على الأهالي، على أحباب الضحايا، على أمهات أو آباء أو أبناء المعذبين أو المقتولين أو محطمي الأجساد؟ في آذار من هذا العام علمت من صديق أن بعض الصور تشبه معتقلاً قريباً له، لا معلومات عنه منذ أكثر من عامين، وأن صورة أخرى تشبه أخا القريب المعتقل، وأنه بدأت تردهم التعازي بالشهيدين، دون أن يكون مؤكداً قطعاً أن الصور تعود لمن يفترض أنها تعود لهم. يصف الصديق نشر الصور بلغة قوية بأنه «تسكع بين الجثث»، ويضيف: «العذابات الأليمة التي يعانيها أهلنا وبلادنا، لا تجعل الرفق بالأمهات والآباء والأهالي والأحباب ومحاولة مراعاة مشاعرهم ترفاً زائداً». هذا منطق قوي جداً. ولديّ من الاعتبارات الشخصية ما يسهل لي استبطانه. وما يبدو فظيعاً على نحو خاص هو حالة اللايقين التي تدفع الأهالي إلى التحديق في الصور المرة تلو المرة بحثاً عن يقين لا يصلون إليه في شأن ما إذا كان غائبهم هو هذا الجسد المسجى أم لا. حيال هذا الواقع، المرء مدفوع إلى التساؤل عن كيفية التوفيق بين الحاجة العامة الحيوية إلى هضم الفظيع وبين حماية الأهالي من استعراض صور أجساد أحبابهم المقطعة أو المسحوقة، وتخيل العذابات التي مروا بها قبل موتهم. لا يبدو أن هناك كيفية لذلك. فعدا أن الأهالي ليسوا قطاعاً صغيراً من السكان، هم معظم السكان في الواقع، وتقريباً كلهم، وأن ما يميز أزمة تأسيسية كأزمتنا هو امحاء المسافة بين الشخصي والمشترك، فإن شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تفاقم امحاء الحدود هذا، بحيث يستحيل كل الاستحالة الجمع بين المطلبين. لكن هل الأمر يتعلق هنا بالصور حصراً؟ أليس التداخل الشخصي والمشترك وإمحاء الحدود واللايقين، وقبلها العنف المهول وتحطيم ما لا يحصي من حيوات وبيئات حياة، عبر إباحية عنفية لا حدود لها، أليست كلها وجوهاً لأزمة تأسيسية لا تعالج بمنطق تقليدي أو بأفكار إدارية؟ لا يتعلق الأمر بخلل في سير المجتمع والسياسة، بل بانهيار أسس الاجتماع والسياسة والقيم، وأسس التمثيل الفكر والفني والثقافي لحياتنا، السوريين، بقدر لا يقل عن أسس تمثيلنا السياسي.
مشاعية الصورة اليوم هي أحد وجوه الأزمة التأسيسية بوصفها انحلالاً عاماً.
لا أقول إن صور أجسادنا المقطعة، وانفصال رأس طفلة عن جسدها، وتحطيم جسدي حمزة الخطيب وتامر الشرعي، وتقبيل الولد حذاء معذّبه في «ماء الفضة»، ثم تعرضه لانتهاك جنسي، أو هرس رأس أحد ضحايا الشبيحة بكتل إسمنتية، أو صور مصلوبي داعش أو مذبوحيها، أو السائقين العلويين الذين قتلوا بعد سؤالهم عن عدد ركعات صلات الصبح، أو صورة شاب من درعا مرمي على الأرض بينما يسهب في شرح ذنبه ملتح مسن قبل أن يقتله بسادية مروعة بحربة بندقيته، ليست مذلة لنا، أو ليست إهانات بليغة لكرامتنا، لكن هل هي إهانات لأنها صورت، أم لأنها وقائع حدثت؟ ربما يقول إنها لا توجد كوقائع عامة إن لم تصور وتعرض. هذا منطق شائع اليوم، له قرابة قوية مع عالم يذوب بكامله في النصوص، عالم ينصرف التركيز فيه عن التجارب التاريخية إلى الخطابات والنصوص والصور، لكنه وقوف في موقف المتفرجين، مستهلكي الصور والنصوص والخطابات عن الانتهاك والتحطيم، وليس بحال موقف من وقع عليهم الانتهاك والتحطيم، وهو الموقع الذي يجدر كفاعلين عامين بنا تقمصه، وجعله تجربة عامة.
نعم، صحيح، إذا ظلت الإهانة خاصة فإن المهان يتحملها أكثر، لكن فرصة تكرارها عليه هو ذاته أو على غيره تبقى كبيرة ضمن الشروط التي مورست فيها الإهانة. بالمقابل، إن إهانة عامة أقسى على المهان، لكن فرصة مقاومة الإهانة وحشد الاحتجاج الواسع عليها وعلى الشروط التي تجعلها ممكنة أكبر بما لا يقاس. هل الانتهاك الجنسي للولد يذله؟ طبعاً، ليس هناك سؤال في هذا الخصوص. لكننا بتقمصه واعتبار أنفسنا مغتصبين مثله، ندافع عن كرامته، ونقلب الإذلال إلى فعل تمرد وصناعة للفن والقيم، وهو ما ليس ممكناً دون أن نشاهد الواقعة الإجرامية وندخل في المشهد. اغتصاب نساء ليس إذلالاً وتحطيماً لهن فحسب، بل هي تحطيم لجماعتهن أيضاً. لكن حين نطور نحن فناً وثقافة تقول نحن النساء اللاتي اغتصبن، فإننا نسهم في صون كرامتهن، ونكون لهن رابطة اجتماعية جديدة تحمي جماعتهن ذاتها من التحطم. وهو فعل كرامة حين نحن جميعاً نمتنع عن معرفة عدد ركعات صلاة الصبح، كي نكون شركاء للمقتولين لا للقاتلين.
أما إذا تكتمنا على وقائع الفظاعة وصورها، فإن أول من ينجو هو منتج الفظيع وممارسه، وليس ضحاياه. بهذا النهج لا أرى أننا نحمي الضحايا، وكرامة أسرهم، وكرامتنا كشركاء لهم في موقع وفي قضية، بل نحجب القاتل العام عن اللوم. أنحاز للخيار الثاني، دون إنكار وجاهة بعض حجج المتحفظين.
لكن قد يقال: لما لا نسعى وراء ضوابط أو مواثيق بجري الاتفاق عليها، بحيث توضع الصور بتصرف العموم وفق قواعد محددة؟ أي لم لا نطور دستوراً يحكم علاقتنا بالصور؟ فلا نحن نمنع ونقيد بصورة إدارية أو ذاتية، ولا نحن نبيح ونتهتك؟ يبدو هذا معقولاً، لكن فرص التقدم نحوه مرهونة بتصوري بالتقدم العام نحو مواثيق وقواعد تخرجنا من الإباحية العنفية، وفي سياق بلورة دستور للدولة والسياسة، اي في التحول نحو نظام جديد للاجتماع والسياسة والحياة. وعلى كل حال هذا يحيل إلى ما سبق قوله عن الأرشيف. الأرشيف هو جمهورية الصور الدستورية المستقلة، التي نزورها متى شئنا من أجل ألا ننسى، ومن أجل أن ننفصل عن الفظيع في الآن ذاته. جمهورية الصور المستقلة هي أحد وجوه بناء جمهورية الأحياء، الأحرار.
أما ما دمنا في غمار الأزمة التأسيسية وجنة العنف المبذول الراهنة، فإن مشاعية الصورة هي خيار أكثر اتساقاً من غيره.
والواقع أن هذا ليس إلا اضطلاعاً بعواقب وضعنا المتمثل في استحالة ضبط تدفق الصور، وقبول هذه الاستحالة كقدر، ومحاولة قلبها على نفسها، تحويل الفظاعة وصور الفظيع إلى ذاكرة تنفصل عن الماضي لأنها انغمست فيه وعرفته وتملكته، تتحرر منه لأنها تعرفه وتمتلكه.
لقد أذللنا إذلالاً خارقاً، وكرامتنا لن تبنى على كبت ما أصابنا، بل لن تبنى على غير النظر في وجه ذلنا، والتحديق فيه ملياً وكثيراً. وبعد التحديق، النقاش العام مسلك مناسب جداً لهضم الفظيع، وقد يثمر أرضيات فكرية وأخلاقية وفنية أنسب لتشارك جديد.
ياسين الحاج صالح كاتب سياسي ومعتقل يساري سابق، مؤلّف مشتغل بالشؤون السورية ونقد الثقافة والإسلام المعاصِر.
|