ما زال اتهام نجم الكرة المشهور محمد أبو تريكة بدعم جماعة «الإخوان» والتحفظ على أمواله قبل أسبوعين صادماً لقطاع يُعتد به من الجمهور الذي تفاعل بحماســــة مع موجة تخوين الاختلاف والمختلفين على مدى ما يقرب من سنتين. غير أن هذه الصدمة لا تكفي لزعزعة موجة عاتية تتغذى على إرهاب أعمى مخيف يجعل الأمن مُقدَّماً على ما عداه، ويخلق أجواء مواتية لتوزيع الاتهامات بخيانة الوطن أو الضلوع في مؤامرات، ويؤدي إلى قبول ممارسات تعود إلى ما قبل العصر الحديث.
وكـان مشهد إحراق كتب بطريقة هستيرية داخل إحدى المدارس قرب وسط القاهرة في 14 نيسان (أبريل) الماضي، بدعوى أنها تحض علـــى التطرف الدينــي، بالــــغ الدلالة على المدى الذي بلغته تداعيات هذه الموجة، علماً أن وقائع الحرق جرت على أنغام مقطوعات موسيقية حماسية وأغان وطنية.
ولم يكن هذا المشهد طارئاً أو معزولاً عن السيـــاق العام لحالة تطرف يرتدي لباس الوطنية ويسابق التطرف الذي يستتر وراء الديــــن. فعلى مدى نحو عامين، ومنذ إسقاط حكم جماعة «الإخـــوان» التي سطت على ثورة 25 يناير وأثارت هلـــع الكثير من المصريين وعرب آخـــرين، تصــدر تخـــوين المختلفين المجال العـــام في مــــوجة تبدو مضادة للتكفير الديني في الشكل، ولكنها تُعد وجهاً آخر لها في المحتوى.
وتبدو هذه الحالة هي الأخطر على المجتمع المصري في تاريخه الحديث، رغم كثرة الخطوات الارتدادية التي حدثت على مدى نحو قرنين. فقد تحصن كل من التطرف الذي يرفع شعارات دينية، ونظيره الذي يرتدي لباس الوطنية، في خندقه وتسابقا في إطلاق قذائف التكفير والتخوين.
لذلك ليس مدهشاً أن نجد، ضمن هذه الحالة التي تجعل العقل المصري العام في أصعب مراحله منذ القرن التاسع عشر، مشاهد لم تكن متخيلة في هذا العصر. فكان منسجماً مع عصره (نهاية القرن الثامن عشر) ما رواه الجبرتي عن رد فعل بعض المصريين حين رأوا للمرة الأولى ما جاء به الفرنسيون في حملتهم عام 1798 من أسلحة في جانب ومعارف في الجانب الآخر، فرددوا «يا خفي الألطاف... نجنا مما نخاف». غير أنه ليس طبيعياً أن يقف دعاة يعملون في المؤسسة الدينية الرسمية في بداية القرن الحادي والعشرين (3 شباط/ فبراير الماضي) في صحن أحد المساجد الكبرى في القاهرة (مسجد النور) ويهتفوا «يا حنّان يا منّان... طَهر مصر من الإخوان». ويجمع المشهدين، كما الهتافين، رد فعل بدائي تجاه خطر ما نتيجة عدم القدرة على فهم أبعاده. ويحدث ذلك حين يتعطل العقل ويعود إلى حالة بدائية.
ويرتبط ذلك بحالة هستيرية لا تقتصر على ما تحفل به وسائل إعلام مرئية من صراخ وتطبيل وتزمير وتوزيع اتهامات بالجملة والمفرق. فقد خلق تصاعد العنف والإرهاب أجواء خوف حقيقي، وأتاح فرصاً لمضاعفة هذا الخوف عبر خطاب شائع يهدف إلى توسيع نطاق القبول العام بإجراءات أمنية استثنائية، ويحط من شأن الحقوق والحريات بدعوى أنها تتعارض مع متطلبات تحقيق الأمن.
وعلـى كثرة السلوكيات المعبرة عن حالة الهستـــيريا في التعامل مع الإرهاب، تبـــدو بالغة التعبـــير قصة الفتاة التي صعدت إلى مئذنة مسجــــد السلطان أبو العلا في وسط القاهرة قبيل حدوث تفجــيــر إرهابي في محيط وزارة الخارجية المجـــاور له في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014. فقد رُوجت روايات عدة عن هذه الفتاة ودورها في التفجير على مدى أكثر من يومـــين، قبل التأكـــد من أنها ليست إلا موظفة في إدارة الترميمات في وزارة الآثار، وكانت في مهمة رسمية لمتابعة عملية ترميم في هذا المسجد.
وفي ظل السباق بين التخوين والتكفير، صارت ملابس الفرد وشكله الخارجي جزءاً من حالة استقطاب كانت موجـودة منذ عقود، ولكنها لم تبلغ مبلغها المخيف الراهن إلا في الفترة الأخيرة. فلم يحدث من قبل أن وصل الاستقطاب إلى مستوى أدى إلى تفرق شمل أُسر، وقطيعة بين أشقاء أو آباء وأبناء، حيث تعجز صلة الرحم عن وضع حد لخصومات تنامت بين أقارب اصطدموا منذ 30 حزيران (يونيو) 2013، وصاروا أعداء في غير قليل من الحالات.
وساهم تضييق المجال العام وتقييد الساحة السياسية مجدداً في الحيلولة دون تحول جزء من طاقة الاستقطاب السلبية التي ينطوي عليها هذا الانقسام إلى طاقة إيجابية يمكن أن تفتح أبواباً مغلقة أمام الحوار سعياً إلى وضع حد لهذا الاستقطاب بين المخوَّنين والمُكفَّرين، وفي داخل كل من الفريقين أيضاً.
فالانقسام الذي بدأ بين الفريقين امتد في داخل كل منهما، لأن طاقة الموقف التخويني – التكفيري تجاوزت المدى الذي يسمح بإبقائه في الحدود التي كان عليها في النصف الثاني من 2013، وبسبب المزاودات المتزايدة بين مكونات كل من الفريقين.
لذلك أخذت معدلات التخوين المتبادل تتنامى داخل كل منهما رغم أنها أكثر وضوحاً في «معسكر التخوين» منذ أن طفت على السطح خلال الانتخابات الرئاسية في أيار (مايو) 2014. فقد أدى ما بدا أنه ضعف في الإقبال على صناديق الاقتراع فيها، مقارنة بما كان متخيلاً، إلى اتهامات متبادلة بين بعض أنصار الرئيس (المرشح حينئذ) عبدالفتاح السيسي، حيث أخذ كل منهم باتهام غيره إما بأنه «خان» المرشح المُنقذ ولم يحشد بما يكفي، أو «تآمر» عليه، أو تظاهر بدعمه علناً فيما كان سلوكه الفعلي مختلفاً.
ورسمت بعض القصص التي نُسجت ضمن حملة الاتهامات المتبادلة تلك خطــوط انقســام جديدة تعيد إنتاج نفسها الآن بصورة أخرى في غمار الارتباك المحيط بإجراء الانتخابات البــرلمانية المتعثرة. ويحدث هذا كله فـــي سياق حالة يتقـــدم فيها التخوين على التكفير ويسبقه للمرة الأولى منذ صعود الإسلام السياسي في السبعينات. |