التاريخ: أيار ٢٤, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
العرب وإيران: حتى لا ندخل حرب المئة عام - خالد الحروب
بمجرد ان تندلع الحرب تصبح سيدة نفسها. تتمرد على من أطلقها وتحقق استقلالها عن مخططيها، وعن الظروف المحيطة بها، وكذلك عن الرغبات القوية بوقفها. تشحن نفسها بطاقة غريبة وهائلة للإستمرار. هي هكذا فكرة الحرب، الأيلولة إليها واستمرارها وكل ما يدور حولها لا يزال أحد الاسرار المدهشة لهذه البشرية. من جهة تبدو قصة الحرب كفكرة وممارسة وكأنها واضحة الملامح، محددة البدايات ومُتوقعة النهايات، وفي كل الاحوال مُوحدة للرأي ضدها، او لتفاديها، واعتبارها آخر الحلول. كل البشر تقريباً يتفقون على بشاعتها وفداحة أكلافها، وضرورة عدم الانجرار اليها. لكن هذه الساحرة الملعونة، من جهة ثانية، تصمد في قلب التاريخ وكأنها المحرك الأهم له والراسم الاكثر تأثيرا لمساراته، والمُستهزىء الاكبر بكل رصانة وعقلانيات البشر ومفكريهم. كلما تفاعلت ظروف «سلامية» في زمن ما تشير الى احتمال تراجع الحرب وجنونها وتقدم السلم وعقلانيته، واحتمال ترجمة الشعوب والحكومات والسياسيين على الارض ما يقتنعون به في العقل والخيال من بشاعة الحرب ودمويتها، تنتفض الحرب دفاعاً عن وجودها واستمراريتها فتعلن عن اندلاعاتها في المكان والزمان الذي يتهدد فيه ذلك الوجود.

جانب من الغموض المُحير في الحرب يكمن في نتائجها التي لا تتوقف عن ان تكون مفاجئة، مُربكة للمخططين والاستراتيجيين والسياسيين، وساخرة من خططهم التي يعتقدون انهم «حبكوها» بما يضمن السيطرة على مسارات ونتائج الحرب التي يخوضونها. وقبل وبعد كل شيء في «علم الحرب»، او ربما الجهل بها، هناك التحدي الكبير والدائم حول معضلة الخروج من الحرب وإنهائها، والتي لا علاقة لها بسهولة الدخول فيها وإبتدائها.

ليست هناك حاجة للذهاب بعيداً في تاريخ الحروب للتدليل على كل ذلك، وهناك فائض من الامثلة والشواهد الطازجة امامنا وفي منطقتنا المنكوبة بالحرب. حروب صدام حسين وحروب جورج بوش في العراق وافغانستان وحروب اسرائيل على غزة، معظمها، ان لم يكن كلها قادت الى نتائج لم تكن مرغوبة لمن أطلقها، ان لم نقل نتائج معاكسة تماماً. صدام أراد بغروره ان يجعل من العراق قوة باطشة تخيف ليس فقط إيران بل جيرانه العرب أيضاً، فكانت النتيجة انه دمر العراق وقدمه لأعدائه. دخل حرباً مع إيران ظنها نزهة، فأرهقت البلدين والمنطقة وصار الخروج منها أمنية كأنها بعيدة التحقق. غزا الكويت بعدها ظاناً انها نزهة أخرى، فوضع العراق على طريق الإنهيار المجهول الذي ما زال فيه حتى الآن. رعونة جورج بوش الابن هو الآخر ادخلته في حروب ورطت اميركا وانهكتها، وكانت نتائجها كارثية ليس على اميركا فحسب بل العرب تحديداً: قدم العراق هدية مذهلة وعلى طبق من ذهب لإيران، وفتح بوابات النفوذ الاقليمي لها بشكل لم تكن تحلم به. وقدم العراق أيضاً هدية مذهلة وعلى طبق آخر من ذهب لـ «القاعدة» والإرهاب الاسلاموي، وفتح بوابات الجحيم والدم على المنطقة وشعوبها، بحيث صارت «القاعدة» تنظيماً معتدلاً مقارنة بمن جاء بعدها من سَفَكة دماء.

ولإيران حروبها ومعاركها القائمة على ما قامت عليه حروب الآخرين من «تفكير استراتيجي» مُفترض يعتاش عملياً على إغواء فكرة النفوذ الاقليمي والسيطرة وبسط الهيمنة. حروب ايران في العراق وسورية ولبنان واليمن يخضع كل منها وبالتأكيد لما يُظن أنه حسابات «دقيقة» ويعتقد القائمون عليها ان نتائج حروبهم محسوبة ويمكن إدارتها بحسب الاهداف والرغبات المرجوة والمسطّرة على الورق. وكذا لا يختلف غموض الحرب والتخطيط لها ونتائجها في مسألة حرب التحالف ضد الحوثيين في اليمن، وعلى مشروعيتها الواضحة، إذ كانت قد بدت الامور محسوبة بدقة وأن نتائج الحرب مضمونة ومساراتها محددة. لكن الحرب تفاجىء مخططيها، ذاك انها فور ان تندلع تصبح مرة تلو أخرى سيدة نفسها. القرن العشرون بطوله يتحفنا بشواهد حروب أدمت الانسانية. كل حرب سقط فيها عشرات الملايين من الابرياء ضحايا لها، ودمرت بسببها بلدان ومجتمعات وأجيال.

ذلك كله للقول ان منطقتنا تقف على حافة خطر كبير، خطر حرب دموية طاحنة وطويلة بين ايران والعرب، تعمل على استيراد كل الاحقاد الماضية، وتعيد انتاج الغرائز الدينية والطائفية الفجة، لتدخل الشعوب في نفق بائس من الدم الذي قد نعرف متى نفر اول مرة، لكن لا أحد سيعلم متى قد يتوقف. بعد الحروب الطويلة يستعيد العقل بعضاً من الضياع الذي واجهه، ويرى الناس من عاديين ومفكرين جبهات الدمار الطويل فيبصرون عبثية الحرب وبشاعتها، وتفاهة غرور القوة الذي يقود اليها.

لسنا بحاجة الى مستقبل دام يكاد الكثيرون منا يرونه إن لم ندفع العقل والرصانة لمحاصرة غرائز الحرب وإغواء النفوذ والقوة. والمفترق الذي تقف عليه المنطقة الآن مكتوب عليه «مستقبل علاقة العرب وايران»، ثم ينفرد الى مسارين: واحد دموي وحربي وطائفي يقودنا الى حرب دينية ونفوذية وتحطيمية، مثال حطامها ما نراه في سورية، ومسار آخر سلامي وعقلاني وتعاوني. المسار السلامي صعب الإبتداء، بعكس سهولة الشروع بالحرب، ومضنٍ ويحتاج الى جهود خارقة للعادة، لكنه مسار يبعد الدمار الشامل، ويحمي شعوب المنطقة واجيالها القادمة.

يحتاج العرب وإيران وتركيا أيضاً اليوم وقبل كل شيء الى «مؤتمر اقليمي شامل» يستمر لأسابيع هدفه إعادة موضعة المنطقة على مسار التعايش والسلام بين البلدان والشعوب، خشية الانجرار الى مسار الحرب المخيف. مسار الحرب جاهز والانزلاق اليه سهل ومغر، لكن لا يعرف احد كيف يمكن الانتهاء منه. واذا استخدمنا زمن الحرب العراقية الايرانية الذي استمر لقرابة العقد من السنين كـ «مقياس» فربما لن يكون من المبالغة القول ان مسار الحرب الملعونة الذي قد ننخرط فيه في المنطقة قد يستمر قرناً من الزمان. فيه تصير الحرب، وليس السلم والحياة العادية، هي النمط السائد وهي المحدد الاهم ليوميات البشر. هناك حاجة اكثر من ماسة اليوم لجيوش من اصحاب العقول الراجحة والرصينة، وليس من العسكريين واصحاب الحناجر العالية، ليقودوا سياسات حكيمة تقود المنطقة الى مآلات غير دموية، ولنتفادى السيناريو الكارثي الذي ينتظر على عتبات البيوت. من يقول بخلاف ذلك فعليه ان يفك سحر الحرب ويكشف لنا عن اسرارها الغامضة التي حيرت فلاسفة البشر ومفكريهم، ويقدم الاجوبة على الاسئلة الملغزة: كيف يمكن ان ننهي الحروب، وكيف يمكن ان نضمن نتائجها؟
 

* كاتب وأكاديمي عربي