التاريخ: أيار ٢٣, ٢٠١٥
المصدر: ملحق النهار الثقافي
الجمهورية المحتلة - محمد أبي سمرا
ربما نسي اللبنانيون انهم كانوا يعيشون في جمهورية دستورية برلمانية مستقلة، كانت لها حدود، قبل أن تغرق في حروب أهلية - إقليمية مديدة، وتصير دولة الجمهورية متصدعة، مفتوحة الحدود. لم تتوقف الحروب إلا بعد اتفاق الطائف الذي جعل لبنان جمهورية معطلة معلقة، ودولته مسلوبة الإرادة السياسية والأمنية.

صار لبنان جمهورية محتلة، ودولة وكلاء وتابعين للاحتلال. جمهورية ودولة قرارهما السياسي والأمني خارجهما، في يد ضابط أمن من الرعاع، جعل مقرّه في عنجر، قريباً من الحدود، وحوّله رمزاً وطنياً للإهانة، ليحجّ إليه زبانيته ورهطه من مهانين وخائفين، ومن الراغبين في التدرب على الإهانة والخوف. ومن شاء استدعاءهم لإهانتهم وزرع الخوف في نفوسهم. ومن أرادوا أن يمنحوه الولاء ويقاسمهم الصفقات. ومن أرادوا ان يصيروا تابعين وموالي ومتسلطين في بلادهم وعلى مقدرات بلادهم.

كثيرون من هؤلاء حملهم مزيج الخوف والمهانة والولاء على تشييد بيوت وقصور لهم في ديار الضابط الأمني، المغتصبة بلادُه والصامتة غصباً طوال عقود من الذل والقهر، ومن الترويع والقتل والاعتقال، ومن النسيان والموت في المعتقلات.

شيّدوا قصورهم وبيوتهم هناك، ليظلّوا قصّراً في بلاد قايضوا سكوتهم عن احتلالها بتسلطهم على مقدراتها ونهبها، نكايةً بأمثالهم وأقرانهم، ولكي يكونوا قريبين من سيدهم، فلا يغتالهم في دياره إذا تكاسلوا في طاعته والولاء له، وخمدت عزيمتهم ولم يستجيبوا أوامره في سياسات الشقاق والنفاق والنكاية والاغتيالات ودبيب التهديد بالحرب الأهلية في بلادهم.

الضابط الأمني ذاك، يديره ديكتاتور سوريا الدموي الذي طوّب بلاده باسمه بعد مقتلة حماة، فسمّاها "سوريا الأسد".

قبل أن يموت الديكتاتور الدموي بطيئاً بطيئاً، خسر وارثه الأول في حادثة سير على طريق المطار، فورثه ديكتاتور أشد دموية.

أخيراً، مع رهطه العسكري والأمني الموروث والمتجدد، دمَّر الديكتاتور الشاب سوريا، فتك بشعبها وشرّد منه الملايين، بعد عقود من المهانة والترويع، لأن جمهرات من شبّان المدن والبلدات والقرى أخذتهم موجة من التجرؤ على الخروج إلى الشوارع والساحات، فرقصوا هاتفين للحرية.

حزب الحرب الدائمة
في جمهورية الطائف الأهلية اللبنانية المحتلة المولودة من رحم حروب أهلية - إقليمية مديدة، جرى توليد حزب لحروب دائمة بالوكالة في لبنان وعليه وفي خارجه.
حزب الحرب الدائمة، سليل الجمهورية المحتلة، نشأ في "خدمة سيدين" ودرّب أهله ومواليه ورهطه وجنده وتابعيه على النفور الدائم من العيش إلا في مجتمع حرب، وعلى احتقار ترّهات العيش في جمهورية دستورية برلمانية، يُنتخب فيها النواب والرئيس، ولو على نحو شكلي زائف.

لا يطيق حزب الحرب الدائمة الحياة إلا في جمهورية الطوطم، وليّ سيد العصر والزمان. وهي جمهورية سلطانية مهدوية، تدمج العنف بالدين بالقومية بالوطنية بالطائفية المذهبية، حتى ظهور المهدي، كي يملأ الأرض عدلاً بعدما ملأها البشر جميعاً جوراً وظلماً.

كل شيء في عقيدة هذا الحزب لا معنى له، بل زري ويبعث على الضيق والاشمئزاز والازدراء، سوى الحرب. وحدها الحرب تمنح الحياة معنى وتجعلها قابلة للعيش، والا فإن الموت أجدر منها وأشرف لنيل سدرة المنتهى. حزب ولد من رحم الحرب والموت، يتصدره أمين عام امتهن الخطابة المتلفزة على إيقاع رصاص النكاية والترويع في سماء المدينة، فيما يخوض جيشه السرّي حروباً متلفزة نصرةً لديكتاتور البراميل المتفجرة على شعبه في المدن والقرى، وفيما تُسكِر خطابته "أشرف الناس" وحدهم، والشراذم المحلية الملتحقة بسلطانه، بعدما يتّمها تحطم سلطان ديكتاتور البراميل.

حزب هذه حاله، كيف ومن أين له أن يقيم اعتباراً غير كاذب لجمهورية القانون والدستور والانتخابات، الا اذا كانت معطلة، جوفاء خاوية، إلا من سلطانة الحربي؟!

جنرالا العبودية الإرادية
قبل أن يشتد عود حزب الحرب الدائمة، شاءت أقدار لبنان السيئة أن يصل جنرال إلى القصر الجمهوري. وصل في اللحظة الاخيرة، في منتصف ليل، خشية بقاء القصر شاغراً وبلا رئيس. أسكر الوصول الجنرال. طموحه الهستيري إلى الرئاسة، حمله على خوض حربين مدمّرتين، مستكملاً فصول الحروب المأسوية الملبننة: حربه الأولى كانت خلاصية - وفشلت في تحرير الجمهورية من الاحتلال - كي يطوّب نفسه، حسب مخيلته، ديغول التحرير والقصر الجمهوري.

استلحق حربه الأولى بثانية، أهلية مسيحية أشد تدميراً. كان هدفه منها إزاحة "رفاق دربه" القدامى، علّه يحظى بمباركة الديكتاتور المتربص بلبنان وناشر شِقاق الحروب فيه، فيصفح عن جنرال حرب التحرير المزعومة، ويبقيه في القصر الرئاسي. لكن ديكتاتور التربص والمذبحة في حماة، أغار بطائراته عند الفجر، فدمّر القصر وطموح الجنرال الذي فرّ تاركاً "جيش التحرير" فريسة المذبحة.

طوى اتفاق الطائف المذبحة. ونثر معها جسم رئيس للجمهورية في انفجار مروّع نهار عيد الاستقلال، فانتخب بقايا النواب اللبنانيين رئيساً سمّاه لهم ديكتاتور المذابح والاغتيالات. بعد 15 سنة على ذلك كلّه، عاد جنرال المنفى على أجنحة "ثورة الأرز" التي حررت لبنان جزئياً وموقتاً من الاحتلال.

ولدت تلك الثورة من غضب اللبنانيين الذي حوّلوه فرحاً احتفالياً، عقب اغتيال من حاول الخروج من التواطؤ المرير مع ديكتاتور الاحتلال. في القصر الجمهوري بقي جنرال آخر لن يجود الزمان على لبنان برئيس انكشاري معجز في مثل حبّه العبودية الإرادية، من دون أن يكفّ عن الضحك المقزز لضابط المخابرات في عنجر، ولسيّده الدمشقي.

جنرال المنفى العائد من منفاه منتفخاً بعظاميته وشبقه المستميت للوصول إلى القصر الرئاسي، حملته الضغينة على الانقلاب على "ثورة الأرز" لأنها لم تطوَّب باسمه وحده، فالتحق بحزب الحرب الدائمة، عوداً إلى بدء سيرته وأقنعته. صفّق مديداً لحرب النصر الإلهي التي دمّرت لبنان، وشارك حزبها في احتلال وسط بيروت وتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية. لم يتوقف عن الزهو والتصفيق لاحتلال حزب الحرب أحياء العاصمة، بعدما رقص محازبوه حول حرائق إلهية أشعلها الرعاع في شوارع الأحياء المسيحية.

في الأثناء، كان جنرال المنفى والضغينة والأحقاد، قد أسس سلالة سياسية وصولية وانتهازية لعبادته وللوصول إلى القصر الرئاسي. استعمله حزب الحرب قناعاً صفيقاً لكل شيء: تعطيل الانتخابات الرئاسية وتعطيل تشكيل الحكومة. منذ "ثورة الأرز" حتى اليوم تفوّق في عبادة سيدين ديكتاتوريين، على جنرال العبودية الإرادية الضاحكة المقزّزة.

سنة من الفراغ الرئاسي
مضت سنة واحدة على شعور منصب رئاسة الجمهورية في لبنان. شغور رئاسي، خواء سياسي، تأكل اجتماعي واقتصادي، وحزب الحروب الدائمة يقاتل في سوريا، ولا شيء يشغل جنرال الخواء عن القصر الرئاسي.

لا شيء يعصم لبنان اليوم من البقاء في حال من الخمول والاستنقاع السياسي والحرب الأهلية الداخلية الباردة، في منطقة ملتهبة بالحروب الأهلية - الإقليمية في دول ديكتاتورية تصدعت وزالت حدودها الوطنية والدولية.

الخطيب التلفزيوني لحزب الحرب الدائمة يخاطب اليمنيين والبحرينيين والعراقيين والسوريين، كأنه يخاطب أهله ورهطه في ضاحية بيروت الجنوبية.
أيتام "لبنان أولاً" يرفعون في شوارعهم البيروتية رايات "عاصفة الحزم" السعودية على "أنصار الله" الحوثيين وتابعهم ديكتاتور صنعاء المخلوع.

جنرال "قصر الشعب" يستعيد شعار حروبه القديمة: "يستطيع العالم أن يسحقني، لكنه لن يحصل على توقيعي"، إلاّ إذا وصلتُ إلى القصر الرئاسي. في أمسية النهار التالي يجاوبه خطيب الحرب الدائمة في جرود القلمون السورية، فلا يخفي ابتسامته فيما هو يقول: الأمر لك أيها الجنرال.

سيد المختارة يترك الزعامة لإبنه الشاب، بعدما سئم من الجلوس على ضفة النهر منتظراً أن يبصر جثث قتلة والده طافيةً على صفحة المياه. بعض من أمثال سيد المختارة في التوريث يغارون منه، فيعدّون العدة لتوريث أبنائهم الزعامة والحزب والنيابة وتراث الأجداد.

ناقل متفجرات القتل والاغتيالات العشوائية في سيارته، من سوريا علي المملوك وسيده الرئيس، إلى لبنان، تعلن المحكمة العسكرية الموروثة من زمن الاحتلال والاغتيالات، إخراجه من السجن بعد أشهر قليلة.

فتيان الدراجات النارية يخرجون إلى شوارع الضاحية الجنوبية، ملوّحين بأعلام حزبهم احتفالاً بحكم المحكمة العسكرية، وإحقاقاً لحقّ ناقل المتفجرات ومدبر الاغتيالات في القتل العشوائي.
إنها جمهورية لبنان الطائف التي حرّرتها من الاحتلال "ثورة الأرز" المجهضة بقوة حزب الحرب الدائمة المستميت في تأبيد ديكتاتورية الأسد، وإحيائها من الرميم.

باسم تحرير فلسطين يدمّر الجيش السرّي لهذا الحزب البلدات والقرى في القلمون السورية. ويقاتل في درعا وحمص وحلب. ويهجّر أهلها إلى مخيمات اللجوء في لبنان. هذا قبل أن يطلّ خطيب الحزب، داعياً الجيش اللبناني وأهالي القرى الشيعية اللبنانيين إلى الحرب على مخيمات اللاجئين والمسلحين السوريين، بعدما طاردهم جيشه في جرود القلمون السورية، وحملهم على الهروب إلى الجرود اللبنانية. ثم ها هو يتوعد أهالي عرسال السنّة بالحرب عليهم وعلى مخيمات اللاجئين ومقاتلي "النصرة" و"داعش" بعدما شنّ عليهم الحرب في سوريا وطردهم إلى داخل الحدود اللبنانية.

بعد هذا كله، يتهم الخطيب التلفزيوني "المشروع الأميركي التكفيري بأنه هو من يزيل الحدود ويقوّض الدول، ويزرع الإرهاب والخراب في المنطقة".

كل شيء أفضل من الحرب؟
صار التأكل والشغور في المؤسسات الدستورية اللبنانية سنّة ناجعة في سياسة حزب الحرب الدائمة. وفي سياسة طفله الجنرال المدلّل لشؤون التعطيل، كي ينجز الحزب استيلاءه التام على الدولة التي صدّعها وفكّكها واستباح حدودها بحروبه، كما صدّع المجتمع وأغرقه في الاستنقاع والاهتراء المديدين.

هذه الحال اللبنانية ولّدتها الحروب السابقة على جمهورية الطائف والمستأنفة بعدها، قدر ما هي وليدة عوامل كثيرة، تاريخية عميقة، مستجدة وطارئة، داخلية وخارجية، ومتناسلة في تداخلها الشديد التعقيد.

لكن مهما كانت بواعث هذه الحال من التصدع والخمول والاستنقاع السياسي الداخلي، فإنها "أفضل من الحرب" الداخلية أو الأهلية، على ما كتب مرة الشاعر محمد العبدالله في نهايات حرب السنتين (1975 – 1976) في لبنان.

عن رواية "جدائل صعدة" لليمني مروان الغفوري، ننقل: "كم أمقت هذه الحرب من قلبي. نسافر مع أناس لا نعرفهم لنقتل أناساً لا نعرفهم. وينتصر آخرون لا نعرفهم. حتى المهزومون لا نعرف أحداً منهم. سألت نفسي وأنا منبطح على بطني في الوديان: ما الذي سيحدث لو انهزمنا أو انتصرنا؟ في الحالتين سنعود إلى البيوت أو سنموت".

في لبنان اليوم قد يقول لبنانيون من غير جمهور الحرب الدائمة: كل شيء أفضل من الحرب. لكن كيف وأين ومتى؟، يتساءل سوريون كثيرون، مستعيدين شعار شهيد "ثورة الارز" سمير قصير، على النحو الآتي: لا سلام ولا ديموقراطية في لبنان من دون الحرية في سوريا.

هذا أمل مريض، ما دام لا يزال بيننا وبين إمكان تحقيق هذا الشعار مسافات وأهوال في لبنان المحتل إحتلالاً داخلياً من حزب الحرب الدائمة، وفي سوريا الغارقة في الدم والدمار.
أفق دموي في المنطقة كلها. وفي لبنان المحتل تعليق ظرفي للحروب الأهلية الداخلية، واستغراق في عطالة سياسية.

لكن السياسة في بلاد الجماعات الأهلية والعصبية حربية كلها، أو تعليق للحرب في انتظار فرصة سانحة لمباشرتها عوداً إلى البدء والأصل. كل شيء أفضل من الحرب، يقول لبنانيو الانتظار والخوف من الأفق الدموي في هذه المنطقة.

"حزب الله" ماضٍ في حروبه الخلاصية الدائمة، لأنه الوارث اللبناني الأوحد للحروب الأهلية الاقليمية الملبننة والمولود من رحمها. هذا فيما ألمَّ بالجماعات اللبنانية الأخرى وأجهزتها، إما الخوف والشفاء المرير من الحرب، وإما الهزيمة فيها. لذا خرجت منها وعليها، لكن من دون أن تجترح للسياسة أفقاً ودينامية ومسالك وأبواباً غير أهلية، وأبعد من كونها سياسة منزوعة السلاح خوفاً ونفوراً منه.