تتميز ثقافة الرعب عموماً بجذريتها في مقاربة قضايا الواقع في شكل لا يترك، في معظم الأحيان، أي مجال للتوافق بين مكونات كل مشهد تتدخل فيه، أو تعتبر نفسها فيه طرفاً أساسياً. ولا فرق، هنا، بين المشهد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، من حيث الجوهر وإن اختلفت تجليات هذه الثقافة من مستوى إلى آخر، ذلك أنها تنطلق من محددات شبه أزلية لا تحيد عنها، قيد أنملة، ومن ثمة فهي غير مستعدة لقبول الدخول في أي نقاش، أو حوار، فالأحرى أن تقبل بأي مساومة حولها. وهذه هي المنهجية الثابتة في سلوك هذه الثقافة عبر أصحابها المعلنين عن أنفسهم، والذين يتولون الدعاية لها، أيديولوجياً، وممارستها، عملياً، عند الضرورة، بغض النظر عن كل نتائجها السلبية. ولا ينطبق هذا على الحالات التي تشعر فيها هذه الثقافة بأنها تتحرك على أرضية صلبة، حيث موازين القوة تميل لمصلحتها في شكل ملموس، أو يمكن أن تتحول إلى مصلحتها، بمجرد بذل بعض الجهود لتحقيق هذه الغاية، فحسب، بل إن هذا يصح، أيضاً، عندما تكون تلك الثقافة في موقع من الضعف المادي والمعنوي الذي لا يسمح لها، بأي شكل من الأشكال، بتغيير معادلات المشهد الذي ترغب في التحرك فيه. ففي الحالة الأولى بالذات تسعى ثقافة الرعب إلى فرض هيمنتها الشاملة على المشهد المعني، وعلى ما عداها من القوى والتيارات، من خلال القمع وإقصاء الخصوم الحقيقيين أو المفترضين وإبعادهم، ولو باستخدام القوة، عن أي مواقع للفعل والتأثير، والعمل على إعدام فعلهم في مختلف المجالات، بحيث يكون وجودهم العيني أو عدم وجودهم سواء بسواء، ما داموا خارج أي مواقع للتأثير في مجريات الواقع. لذلك، ترى هذه الثقافة معادية لجل مفردات السياسة التي تقتضي التفكير الجماعي من خلال التأليف بين الأفكار ووجهات النظر والبحث عن الحلول الوسطى لمختلف النزاعات السياسية أو الاجتماعية والتوافق حول بناء مؤسسات لتداول الرأي حول قضايا الخلاف وجعل المؤسسات التمثيلية لقوى المجتمع في أي مستوى من المستويات قادرة على تحقيق هذه الغاية مثل ما هو عليه الأمر في مختلف المجالس التمثيلية بغض النظر عن تسميتها ما دامت تضطلع بمهمة تدبير وإدارة الحوار واتخاذ القرارات الجامعة، والتي تحظى ما أمكن بقبول أوسع القوى والتيارات الفكرية والسياسية الممكنة.
أما في حالات الضعف، وانعدام الوزن الحقيقي، فإن ثقافة الرعب تلجأ إلى ممارسة نوع خاص من الإرهاب يقوم على معادلات إعدام الذات بطريقة عنيفة تترتب عنها خسائر في أرواح المواطنين الأبرياء بهدف قذف الرعب في نفوس الخصوم والأعداء لأن تحول أصحاب هذه الثقافة إلى قنابل متحركة في الفضاء العام يفقد المجتمع برمته الشعور بالأمان الذي يعتبر أساساً لكل استقرار سياسي، يجعل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ممكنة.
وبطبيعة الحال، فإن هذه الثقافة وحامليها لا يقبلون، في العمق، بأي تعايش طبيعي، مع من يحمل ثقافة أخرى مغايرة. وما سلوكهم في حال الشعور بالقوة والثقل المؤثر، كما في حال الشعور بالضعف وانعدام الوزن الكافي للتأثير في مجريات الواقع، إلا الدليل الذي لا يقبل الدحض، بأن هذه الثقافة تلغي الآخر وتقوم بكل ما يدفع باتجاه إخراجه من دائرة الوجود حتى في الوقت الذي تزعم بعض التيارات التي تشبعت بها انحيازها للشعب والمجتمع، انطلاقاً من دوافع دينية أو مذهبية، هي، في الواقع، نوع من أوراق التوت التي تحاول بها ثقافة الرعب التستر على عوراتها التي أصبحت مكشوفة عملياً لكل من تابع سلوكها السياسي سواء وهي في قمة هرم السلطة أو خارجها على حد سواء.
وتقوم ثقافة التعدد التوافقي في المقابل، على أسس عدة يمكن استكشاف أهمها من هذا المصطلح ذاته وفي مقدمها:
أولاً، الاعتراف بالتعدد في مختلف المجالات بحيث لا يمكن الحديث عن وجهة نظر أحادية الجانب تغطي مختلف مناحي الحياة، ولا تقبل بغيرها من وجهات النظر التي ترتبط، هي كذلك، أشد الارتباط بالواقع، منظوراً إليه من زوايا أخرى، وفي ضوء المصالح الخاصة بهذا الطرف أو ذاك. وهذه الثقافة بحد ذاتها تمنع أصحابها ومعتنقيها من اعتماد أساليب الإقصاء والإلغاء، حتى في الوقت الذي تكون الغلبة أو الهيمنة لتلك الثقافة على غيرها من خلال تبنيها من جانب أوسع فئات المجتمع المعني، ذلك أن الانطلاق من منطق الغالبية، على مستوى النخبة، كما على مستوى الجمهور العام الذي يتبنى هذه الأفكار أو تلك، لإعدام فعل فكر التيارات الضعيفة أو الهامشية، ينتهي بأصحابه إلى النتائج إياها التي تؤدي إليها ثقافة الرعب الإلغائية. ولعل هذا هو الذي دفع بالديموقراطيات الحديثة إلى الحرص على التنصيص على حقوق الأقليات السياسية في مختلف برلماناتها حيث يتم الإصرار على التنصيص الصريح والواضح على هذه الحقوق في قوانينها الداخلية تطبيقاً لمقتضيات الدساتير المعتمدة، وحرصاً على عدم التناقض بين روحها التي تقوم على المساواة وبين الممارسات المختلفة التي يمكن أن تلغيها في الواقع العملي.
ثانياً، الحرص على اعتماد أسلوب التوافق كلما تعلق الأمر بالقضايا المصيرية بالنسبة للمجتمع المعني، على رغم الصعوبات التي يمكن أن تعترض اعتماد مثل هذه المسطرة، التي يؤاخذ عليها البعض كونها تقع، في نهاية المطاف، في مأزق ديكتاتورية الأقلية، على اعتبار أنه يمكن الأقليّات السياسية البرلمانية أو الحكومية أن تعمد إلى تعطيل كل القرارات، بذريعة ضرورة التوصل بصددها إلى توافق شامل بين مختلف الأطراف. وإذا كان هذا صحيحاً، من الناحية النظرية العامة، فإنه غير حتمي، على المستوى العملي، لأن مختلف المؤسسات تضع قواعد خاصة تسمح لها بالحسم عند مستوى ما، من مستويات الحوار، الذي يترك المجال لكل المواقف والآراء أن تعبر عن نفسها. من هنا، يمكن الحديث عن ثقافة التوافق المبدع بحيث يترك المجال واسعاً أمام استمرار الممارسة السياسية في مواجهة كل تصور جامد لمسألة التوافق، لأن الهدف الأصلي هو التوصل إلى ما يسمح بتحقيق شبه إجماع حول القرارات المصيرية وليس تعطيل الحياة السياسية بأي شكل من الأشكال.
ثالثاً، عدم اكتفاء هذه الثقافة بالاعتراف بالآخر وبمختلف حقوقه الاجتماعية والسياسية، بل توسيع ذلك ليشمل مستوى من أدق المستويات التي يمكن اعتماداً عليها التمييز بين ثقافة الرعب والإرهاب وثقافة التعدد، وهو مستوى المعتقدات الفكرية والأيديولوجية التي تظل مجال الاختيار الحر للأفراد والجماعات، بما يمكن كل مكونات المجتمعات من الإبداع والدفع بالتقدم والتطور الفكري والثقافي إلى الأمام عبر الحوار الدائم بين مختلف المعتقدات الأيديولوجية بما يمكن تلك المجتمعات من إيجاد أرضيات للتفاهم بينها بقدر ما تتقدم في ذلك الحوار المولد للمشترك من الأفكار وقواعد الممارسة على أساسها.
* كاتب مغربي
|