التاريخ: أيار ١٦, ٢٠١٥
المصدر: ملحق النهار الثقافي
إعادة الاعتبار إلى الفرد العربي كقيمة ذاتية - طارق زيادة
انسحَقَت شَخصيّةُ الإنسان العربي خلال عصور الانحطاط، وجرى التركيز طويلاً في لبنان والعالم العربي، خصوصاً بعد النكبة الفلسطينية في العام 1948، على الدولة كمشروع للنهوض من واقع التخلّف والعجز والضعف الذي ينتاب جميع أوجه الحياة، إذ اعتبرت الهزيمة فشلاً للدول عبر جيوشها مما آل إلى أن تمسك هذه الجيوش في كثير من البلاد العربية بأعنّة الحكم، وأن تعسكر المجتمع كسبيل للنهوض. حتّى في الدول التي لم تسيطر فيها الجيوش مباشرةً على الحكم، جرَت عسكرة ضمنيّة للمجتمعات. في كلّ الأحوال جرى تغييبٌ للفرد أدّى إلى أن تحتلّ الدولة المركز الأساسي في العالم العربي، وباتت معه هذه الدول مسؤولةً مسؤوليّة شاملة عن كلّ شاردة وواردة، بحيث أصبحت مشجباً يعلّق عليه الناس كلّ مطالبهم ويعفون هكذا أنفسهم من كلّ تبعة.

توافقَ هذا الأمرُ مع اتّجاهات في التاريخ العربي كانت تجعل من الدولة السلطانية نموذج الحكم في هذه البلاد. هذه الدولة السلطانية تملك الأرض والبَشر، وتُلغي دور الفرد ولا تعوِّل إلّا على القوّة العسكريّة، تجعلها في تصرّف السلطان الذي يتصرّف بسلطة أبويّة لا تتطلّب إلّا الطاعة وتنفيذ الأوامر من الناس، عدا عن ملكيَّته للأرض التي أضحت أميرية، وخصوصاً خارج المدن.
وإذا كانت الدولة السلطانيّة تجد تبريراً لها في طبيعة المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسكّانية التي كانت تسود العالم العربي، إلّا أن هذه الدولة باتت في القرن الحادي والعشرين غير متوافقة مع التطوّرات التي اجتاحت العالم.

كانت الدولة التوتاليتارية في أوروبا قد نشأت في العام 1917 مع نجاح النموذج الإشتراكي في روسيا وقيام الاتحاد السوفياتي، ثمَّ نشأت الدولة النازية في ألمانيا في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين لتجسّد توتاليتارية الدولة في مجتمع صناعيّ متقدّم. أمّا الدولة الفاشية في إيطاليا التي نشأت في العشرينات من القرن نفسه، والدولة الفرنكوية في إسبانيا التي انتصرت في العام 1939 نهائياً على الجمهورية، ودولة سالازار في البرتغال، وسائر أنظمة الحكم التي سادت في أوروبا الشرقية خلال المدّة بين الحربين العالميّتين، فقد تميّزَت بأنها أنظمة ديكتاتورية أكثر منها أنظمة لدول توتاليتارية. ذلك أنّ أهمّ ما يميّز هذه، إلغاء الفرد وشخصيّته بحيث يصبح هذا الأخير رقماً من الأرقام في مؤسّسات الدولة الكليّة الشمول، وقد حلّلت ذلك حنة ارندت في كتابها الممتع "أسُس التوتاليتارية".

لم تصل الدولة في العالم العربي إلى أن تكون دولة توتاليتارية، وذلك ترتب على هيكلية المجتمعات العربية الضعيفة المتفسّخة وليس على إرادة القائمين على الأمور العامة. إذ لم يكن في وسعهم في ازاء بنى المجتمعات العربية إقامة مثل تلك الدولة التوتاليتارية أصلاً.

إلّا أن الدولة في العالم العربي تميّزت بسمات الحكم الفردي حتى أصبح في الإمكان الإشارة إلى بضعة مسؤولين يحكمون هذه المنطقة الواسعة وتعود إليهم مقاليد الأمور فعلياً.

وما دامت الحوادث الأليمة جارية الآن في اليمن، فإننا نضرب مثلاً بها: يحكي كتاب "كنت طبيبة في اليمن" الذي وضعته طبيبة فرنسية عملَت هناك في ظلّ حكم الإمامية، وترجمه الدكتور محسن العيني، أحد رؤساء الوزراء في ما بعد، كيف أن الإمام كان يتصرّف في الكبيرة والصغيرة في أرجاء اليمن الواسعة، حتى في شراء علبة طباشير لكتّاب من الكتاتيب في قرية نائية بعيدة مئات الكيلومترات عن صنعاء.

لعلّ هذه الصورة الكاريكاتورية تمثّل الوضع العربي أحسن تمثيل، بحيث غاب الإنسان بما هو فردٌ له حقوق وواجبات، وكائن له قيمة ذاتيّة، وغابت المؤسّسات الوسيطة بين الحاكم والمحكوم، وانعدمت إرادة الفرد في تسيير شؤون مجتمعه ولم يعُد ذا فعلٍ خلّاق.

ومع أن الدول العربية وقَّعت ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتّحدة في العام 1949، ومع أنّ هذا الميثاق هو في الدرجة الأولى إعلان لحقوق الفرد، إلّا أن توجّهها العام كان مناقضاً في الواقع لتوجّهات الإعلان العالمي.

أدّى الأمر إلى تغييب الفرد، وانعكس ذلك في غياب المبادرة الفرديّة الخلّاقة وتجاهل الحقوق الفرديّة للإنسان. ومع أنّ الدولة العربية لم ترغب في أن تسقط الواجبات المفروضة على "رعاياها"، إلّا أنّ هزال الوضع العربي تعليمياً واقتصادياً واجتماعياً أدّى إلى أن تعفي الجمهرةُ العربية نفسها من الواجبات وساعدت غلبة الأمية على ذلك وانعدام دور المرأة العربية وتفكّك هيئات المجتمع الأهلي، وفي غياب مجتمع مدني متماسك يستطيع الوقوف في وجه الدولة.

أدَّت عسكرة المجتمع إلى ترييف المدن ذاتها التي كانت لعبت إبان العصور المزدهرة دوراً أساسياً في الحياة العامّة على رغم كلّ الصعوبات.

كان من نتائج غياب الفرد وتهميشه، طمس المبادرة الفردية، وتالياً طمس الإبداع والخلق والتجديد. ضعفت الفنون وذوَت الآداب، وأصبحت الصحف ووسائل الإعلام نشرات مكرّرة، وساد التقليد في العائلة والمدرسة والجامعة. وحيث وُجِدَ مثقَّفٌ حقيقيّ لم يستطع أن يتعايش مع هذا الفضاء الممِلّ والمُضجر، بادر إلى الهجرة تاركاً بلده. هكذا غابت مراكز البحث وقلَّت دور النشر واختفى الكتاب.

وإذا كان العالم العربي يواجه الآن تحدّيات وتطوّرات كبرى من نوعٍ جديد بعد اندلاع انتفاضات الربيع العربي وانهيار كثير من أنظمة القمع وفي الوقت نفسه انهيار بنى الدول ذاتها وتشتّت المجتمعات وسيادة العنف الأعمى الذي أفضى إلى القتل والتشريد والتهجير لملايين البشَر، مع وجود دولة قوية وعصرية مثل اسرائيل في قلبه، فليس له بعد التحوّلات الجارية إلّا أن يعيد النظر في بنيته، وأن يعيد إلى الفرد مكانه القويّ في المجتمع وأن يعزِّز الحريات الفرديّة والحقوق الأساسية وأن يفسح المجال للديموقراطية المبنيّة على حقّ الفرد في المشاركة في حكم بلَده وفي تطويره.

إنَّ ذلك يكمن خصوصاً في احترام كرامة الإنسان في ذاته ويستدعي وضع الحريات الأساسية موضع التطبيق فعلاً، وإعادة الاعتبار إلى هيئات المجتمع المدني وعدم الخوف منها بل تشجيعها على الانتشار والعمل. إنَّ مواطناً لا يعتبر الشأن العام شأنه، يعيش منزوياً بل عاجزاً وملغى، وبحكم غير الموجود. لقد رأينا كيف أن البورجوازية الناشئة على ضعفها قد هجرت بلدانها وحملت أموالها، مع أنَّها، حتى بالمفهوم الماركسي التقليدي، شرطٌ لقيام اقتصادٍ حديث.

نودّ أن نشير إلى أنّه لا يمكن أن يدّعي اقتصادٌ ما أنّه اقتصادٌ حرّ إذا لم يكن الفرد في ذلك البلد متمتّعاً بالحقوق والحريّات الأساسية التي تكفلها النصوص وتترجمها الممارسة العادلة اليومية، ولا سيَّما أنّ الفرد هو شخصٌ له حقوق تجب حمايتها وحفظها، وقد ذهب العديد من المدارس الفلسفيّة المعاصرة إلى أنّها حقوق طبيعية ملازمة له، منطلقة من مسلَّمات بديهية في المساواة بين الأفراد في الحرية والكرامة البشريّة، وتتيح لهم التمتّع بتلك الحقوق في مقابل القيام بالموجبات المصاحبة لها.

ذلك يعني بالمعنى الفلسفي، وحسبَما أوضحه المفكّر ناصيف نصّار، أن الإنسان يعي قدرته على "تقرير مصيره بنفسه، وتقرير المصير يعني في نهاية المطاف، أنّ الإنسان قادرٌ على أن يكون ذاته بأن يصير ذاته، ولا يمكنه أن يصير ذاته من دون أن يكون ذاته... وهذا هو منطق الحاضر ورهان الحضور"، ويصبح "الحاضر بمعناه الآلي هو الكائن الذي يصنع تلك الحوادث بحضوره الفاعل إلى ذاته وإلى واقعه وحوادث العالم حوله".

فهل تتمخّض التحوّلات العربيّة الجارية، ولو بعد عقدٍ أو عقدَين من دمار البشر والحجر، عن بزوغ الكائن العربيّ الفرد الفاعل في مصيره ومصير مجتمعاته؟
لنا أن نأمل.

 نائب رئيس المجلس الدستوري