للنكبة الفلسطينية (1948) أسباب عدة، دولية وإسرائيلية، عربية وفلسطينية، بيد أن ما يميّزها أنها، بالنسبة إلى الفلسطينيين، تعيد إنتاج نفسها باستمرار، كأنها حصلت لهم للتوّ، وتتناسل مولّدة نكبات أخرى.
في الحقيقة، وكما كتبت مراراً، فإن هذه النكبة لم تُكتب بعد بطريقة شاملة ونقدية، مع التقدير لكتابات قسطنطين زريق وياسين الحافظ وصادق جلال العظم، على سبيل المثال، لأن الواقع السائد لا يتيح ولا يسمح بذلك، بخاصة أن أرشيفات الحكام عندنا، إن وجدت، محجوبة عن الفحص والبحث، وتعدّ من أسرار «الآلهة»، هذا عدا عن أن السياسة في بلداننا لا تقرَّر في إطار حكومات أو برلمانات، فضلاً عن أنها لا تكتب، ولا توثّق، إذ هي، في الغالب، تُصنع بطريقة فردية. وهذا يشمل تقرير مصائر الشعوب والأوطان والموارد.
منذ البداية، جرى تحميل المسؤولية عن نكبة الفلسطينيين لقوى الاستعمار والصهيونية والرجعية، وهذا صحيح، لكنه لا يفسّر كل شيء، إذ إنه يغفل عن حال التخلّف والتفكّك الاجتماعيين في العالم العربي، وتأخر قيام المجتمعات والدول الوطنية، وتخلّف الحركات السياسية، واتسامها بالطابع العائلي والمناطقي. أيضاً القوى المذكورة، الاستعمار والصهيونية والرجعية، لم تعد موجودة على النحو الذي يتم تخيّله بها، في حين أن الخطابات السائدة، قومجية أو يسارجية، مثلاً، ما زالت عند هذه اللحظة، التي مضت منذ ستة عقود. والمعنى أن الأنظمة التي سادت في ما بعد، بواسطة الانقلابات العسكرية، هي التي ظلّت تروّج لهذه الرواية، التي كتبت بطريقة وظيفية، في سياق ترويجها لذاتها، وإضفاء شرعية على وجودها في السلطة، وضمنه تبرير مصادرتها الحريات، وتغطية تعويقها التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد لا يحتاج المرء إلى كبير عناء كي يستنتج أن النظم السائدة، في ما كانت توظف في قضية فلسطين، كانت تتلاعب وتراوغ، بخصوص شعب فلسطين، إذ أبقت على واقع التشرّد واللجوء، والحرمان من الحقوق والهوية، ومنعت تحوّلهم الى بشر عاديين، كأن «مرمطة» الفلسطينيين هي شرط لتأجيج الروح الوطنية عندهم، هذه ناحية. الناحية الثانية، أن هذا الخطاب حرّر هذه الأنظمة من أي جهد لإنهاء حال النكبة، من الناحية العملية، إذ إن الاستعمار لم يعد موجوداً في الميدان في بلادنا، وحلّت دولة إسرائيل محلّ الصهيونية، في حين أن الرجعية غدت مفهوماً مطاطاً، وقابلاً للتأويل والتلاعب والتوظيف، في واقع باتت فيه الأنظمة العسكرتارية أكثر سلطوية وتهميشاً لشعوبها، وربما أكثر رجعية من غيرها.
هكذا، استثمرت نظم ما بعد النكبة كثيراً في نكبة الفلسطينيين، لتعزيز مكانتها، بل أنها وجدت مصلحة لها في استمرار واقع النكبة، بدليل أحوال الفلسطينيين اليوم. والمفارقة اللافتة هنا، أن أكثر الأنظمة صراخاً وادعاءً بخصوص فلسطين، هي أكثرها استخداماً وابتزالاً لهذه القضية، وأكثرها توظيفاً لتضحيات شعبها، وأكثرها تقييداً وتخريباً لنضالاته.
مشكلة النكبة، عدا عن استمرارها، أنها تتناسل مولِّدة نكبات أخرى. هكذا يقف الفلسطينيون اليوم إزاء نكبتين، إن صحّ التعبير، أولاهما تتعلق بتفسّخ أو تآكل، الحركة الوطنية الفلسطينية، التي حملوها كل آمالهم، والتي نجمت عنها تضحيات باهظة. وتتمثل هذه النكبة بالنكوص عن الفكرة الوطنية، باختزال معنى فلسطين إلى مجرد جزء من أرض في الضفة وغزة، في تساوق مع الرواية الإسرائيلية، أو كاستجابة لها، بدلاً من توسيع هذه الفكرة من الحق في الأرض الى حقوق البشر، في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة. كما يتمثل ذلك باختزال شعبها بفلسطينيي الأراضي المحتلة (1967)، ما يعني تحييد أو تعطيل طاقة ملايين الفلسطينيين اللاجئين عن المشاركة في العملية الوطنية. كذلك، ثمة ذاك الانقسام المشين بين سلطتي الضفة وغزة، وبين «فتح» و «حماس»، وتحوّل هذه الحركة الى مجرد سلطة في الضفة وغزة، وثمة انعدام مسؤولية الطبقة السياسية السائدة في مختلف الفصائل، في رفضها مراجعة مسيرتها، وإدراك أوجه القصور والعور فيها، وممانعتها تجديد وملاءمة بناها وخطاباتها وأشكال عملها على ضوء التجربة والتطورات الحاصلة عند الفلسطينيين، وفي محيطهم. هذا يشمل بالطبع، الارتهان المرضي للخيارات التي تم انتهاجها، مع إخفاق خياري المقاومة والتسوية، أو الكفاح المسلّح والمفاوضة، وتهميش كيان المنظمة وهلامية كيان السلطة، ما يعني أن الفلسطينيين اليوم يفتقدون الى الإجماعات الوطنية والإطارات الجمعية.
النكبة الثانية تتمثّل بتفكّك مفهوم الشعب الفلسطيني، وضمور مجتمعات الفلسطينيين في مناطق اللجوء والشتات، وهي التي حملت عبء النهوض الفلسطيني المعاصر، وصاغت مفهوم الهوية الوطنية. هكذا، فبعد اعتبار فلسطينيي 48 خارج مفهوم الشعب الفلسطيني، أو خارج معادلاته وكياناته السياسية، أخرج مجتمع الفلسطينيين في الأردن من هذه المعادلة (بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 1970). أيضاً، بعد عقد اتفاق أوسلو (1993)، تم إخراج مجمل مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين من هذه المعادلة، كما تم تهميش المنظمة لصالح السلطة، في حين اعتبرت هذه بمثابة كيان سياسي لفلسطينيي الضفة وغزة فقط، وتالياً لم تعد ثمة وسائط بين الفلسطينيين في مناطق اللجوء ومركز العمل الفلسطيني في الداخل. فوق كل ذلك، فقد تعرضت مجتمعات الفلسطينيين، اللاجئين في لبنان والعراق وسورية، للتآكل، إذ تركت هذه المجتمعات لمصيرها، من دون أي عنوان تمثيلي، وفي الغضون هاجرت آلاف العائلات الفلسطينية من لبنان الى الدول الاسكندنافية وغيرها، منذ خروج المقاومة من لبنان (1983) هرباً من شظف العيش والتمييز، وبسبب فقدان الأمل.
أما بالنسبة إلى فلسطينيي العراق، فقد تكفلت الميليشيات الطائفية المحسوبة على إيران، بتهجيرهم إلى بلاد الله الواسعة، من دون أن تستطيع القيادة الفلسطينية أن تفعل لهم شيئاً، أو حتى أن تقول شيئاً. وأخيراً، حصل ذلك لفلسطينيي سورية بثمن باهظ، وعلى شكل كارثة، بسبب الانفجار السوري، وسياسة النظام التي لم توفر السوريين، حتى توفّر الفلسطينيين، ببطشها وتدميرها، في حين لم تجد القيادة الفلسطينية طريقة مناسبة للتعاطي مع هذا الأمر، أو على الأقل للتخفيف من مأساة هذا الجزء من شعبها، الذي بات شريداً وضائعاً، وعرضة للتمييز وانتهاك الحقوق، ناهيك عن العشرات أو ربما المئات الذين ابتلعتهم مياه البحر الأبيض المتوسط، مع ألوف السوريين.
باختصار، حال الفلسطينيين اليوم أصعب بكثير مما كانت إبان نكبتهم الأولى، إذ ثمة كارثة مع فقدان الأمل، وتفسّخ مريع في الحركة الفلسطينية، والافتقار الى الإجماعات الوطنية.
* كاتب فلسطيني - سوري
|