في "سلسلة من المقابلات مع شخصيات فكرية عربية وفرنسية في
باريس" التي أجرتها "قضايا النهار" في آذار ونيسان 2015 لفتني بعض ما قالته الشخصيات الفكرية الفرنسية
تحديداً خاصة لجهة الإجماع على براءة الغرب مما جرى ويجري في العالم العربي من أحداث في السنوات الثلاث
الماضية. الأستاذ الجامعي الفرنسى والخبير بشؤون الحركات الإسلامية جيل كيبل
(9 نيسان 2015) يقول: "لا مسؤولية للغرب في نمو التطرف. المسؤولية هي على أنظمة الاستبداد. والجهاديون
المعاصرون استفادوا من فشل ربيع 2011". ويضيف: "يجب النظر إلى الحقيقة المعاصرة وفهم لماذا في بعض
البلدان مثل تونس الثورة أدت إلى خلق دولة ديموقراطية ولكن في بلدان أخرى مثل سوريا هناك اليوم داعش.
برأيي في تونس هناك طبقة وسطى شجاعة كانت قادرة على الكفاح من أجل مبادئها دون أن تتوصل إلى تحالفات مع
أعداء الحرية. في سوريا صادرت الطائفية الثورة وهو تحدٍ داخلي وخارجي لأن الطائفية استعملتها القوتان
الكبريان اللتان تتنازعان السلطة على الشرق الأوسط: إيران الشيعية والسعودية السلفية من جهة
أخرى".
بالنسبة لأنظمة الاستبداد التي يضع كيبل نصف المسؤولية عليها يتناسى
المفكر الفرنسي أن هذه الأنظمة كانت وما زالت متحالفة مع الغرب أو مع جهات معينة في الغرب عادة وهي كانت
وما تزال تحكم بالاتفاق الصريح أو الضمني معه على الرغم من كل الإدعاءات الإعلامية المعاكسة. أما
بالنسبة لمسؤولية "الجهاديين المعاصرين" فإن كيبل يضرب صفحاً عن أن الوضع في سوريا بدأ بتعبيرات
وتظاهرات سلمية استمرت ستة أشهر كاملة وأن القوى المدنية التي قادت التظاهرات لم تكن أول من حمل السلاح،
بل إن العسكرة التي فتحت النار على المواطنين العزّل جاءت من الطرف المقابل وهو أيضاً الطرف الذي حوّل
المواجهة من حركة مطالبة بالحرية والكرامة إلى الطائفية. وبالتالي فان طبقة وسطى سورية شجاعة كانت ناشطة
مثلها مثل الطبقة الوسطى التونسية في بداية الثورة و"لم تتوصل إلى تحالفات مع أعداء الحرية" كما حاول
كيبل أن يصفها، بل ان أطرافاً داخلية وخارجية شجعت ومولت وسلحت تنظيمات طائفية لحرف الثورة عن مسارها.
أما الفرق بين الحالتين فجاء من عدم قيام الجيش التونسي بالتدخل المباشر في المواجهة بينما لم يكن الأمر
كذلك في الحالة الأخرى.
من جهتها ذكرت المؤرخة و الأستاذة الجامعية والمحللة
النفسية اليزابيت رودينسكو (16 نيسان 2015): "... لا يمكن اتهام الغرب والآخرين بما يحصل... اتهام
البلدان الديموقراطية الغربية بأنها المسؤولة غير صحيح. المشكلة معولمة... أعتقد أنه من الواجب الكفاح
ضد اللامساواة في كل البلدان، وضد العنصرية والديكتاتوريات والظلاميين، وصعود الحركات المتعصبة، كما يجب
مكافحة معاداة السامية وسياسة إسرائيل ضد الفلسطينيين...".
صحيح ما تقوله
رودينسكو بالنسبة لتوصيف المشكلة على أنها معولمة، لكن هذه المحللة النفسية البارزة تعرف أن هناك علاقة
بين سياسات إسرائيل اللاعقلانية وغياب الديموقراطية في العالم العربي وتصرفات بعض التنظيمات العربية
والإسلامية اللاعقلانية كذلك. فليقم الغرب بدوره تجاه عرب فلسطين وتجاه كبح جماح التوحش الاستيطاني
الإسرائيلي جدياً وعندها سنجد أن جزءاً وازناً من المعادلة قد تغير. هذه مسألة كانت مطروحة قبل الثورات
أو الانتفاضات العربية في 2011 وهي ما زالت مطروحة في عمق الوعي او اللاوعي العربي ماضيًا وحاضرًا.
لكنَّ الغرب ومفكريه يقفزون فوق هذه النقطة المركزية في العلاقة بين العرب والغرب ويتحاشونها لأسباب
داخلية وخارجية. لقد أصبحت إسرائيل وبسبب الدعم الغربي الكاسح القوة المسيطرة في المنطقة ولا تزال أحدث
الطائرات الحربية تصلها وستصلها في العام المقبل طائرة "أف - 35" التي تستطيع تدمير نظام "أس 300" الذي
ستحصل عليه طهران في الوقت نفسه وهي بدأت بالحصول على أحدث الغواصات الالمانية بنصف الثمن على الرغم من
تفوقها الذي ذكرنا. لم يسئ الى الديموقراطية في العالم العربي أمر مثل تبني الغرب لأبشع أنواع الفاشية
الإسرائيلية. ان العرب، لولا دعم أوروبا والولايات المتحدة المطلق لإسرائيل، كانوا اليوم أقرب الى
الديموقراطية أكثر بكثير مما هم في الوقت الحاضر. لماذا لا يضغط المفكرون الأوروبيون الذين يقرون
بالمظلمة العربية في فلسطين بهذا الإتجاه ويوجهون الينا المحاضرات المجردة عن
الديموقراطية.
أما الخبير في الشؤون الدولية والاستراتيجية والاستاذ في
المدرسة الوطنية للادارة والعلوم السياسية بيار كونيسا (28 نيسان 2015) فقال إن المطلوب "حماية الأقليات
وهذا امر مهم الا انه يختلف عن العمليات العسكرية. من هنا اهمية خلق مناطق محمية نهدد بالتدخل اذا اقترب
المتطرفون منها. وهذا يختلف عن شن غارات على مناطق لا نعرفها أبدا ويجهلها التحالف تماما. ومن غير
المجدي الهجوم، غير ان الدفاع حق مشروع".
ها نحن نعود الى قصة العلاقة الخاصة
بين الأقليات والغرب! لماذا حماية الأقليات فقط؟ ألا تستاهل الغالبية التي تحاربها التنظيمات المتشددة
هي أيضاً الحماية؟ هل هناك نوعان من الناس: نوع يستأهل الحماية ونوع يستأهل الذبح؟ لماذا لا تكون هناك
مناطق حماية للجميع المهدد والذي لا يسير وفق سياسة وأيديولوجية التنظيمات التكفيرية والمدفوعة من أطراف
اقليمية ودولية لشق المجتمع أجزاء؟
في كل الأحوال يجد القارىء لأفكار كيبل
ورودينسكو وكونيسا الرأي الآخر عند المثقف البريطاني الباكستاني الأصل، طارق علي، الذي كتب في السياق
نفسه مقالاً بعنوان: "الفوضى العالمية الجديدة" في مجلة " لندن ريفيو أوف بوكس" (9 نيسان 2015) يقول فيه
إن أحدا في الغرب لا يسأل ما هي أسباب العنف الإسلامي وإذا ما تجرأ أحدهم على السؤال عما إذا كانت
السياسات الامبريالية الغربية مسؤولة، ولو بدرجة غير محددة، عن ذلك يجري الهجوم عليه بعنف لتسخيفه
بالطبع وإجباره على السكوت. ويعطي طارق علي أهمية كبيرة لتأثير الحرب التي شنها التحالف الغربي على
العراق منذ 2003 والذي يصفه علي بأنه كان أكثر العمليات تدميرا في العصر الحديث. فعلى الرغم من أن
المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناغازاكي دُمرتا نوويا، فإن الهيكل السياسي للدولة اليابانية ظل
موجوداً. وعلى الرغم من أن الألمان والإيطاليين هُزموا في الحرب العالمية الثانية، فإن هياكل السلطات
العسكرية والاستخبارية والبوليسية والقضائية ظلت قائمة؛ لأن عدوًا آخر متمثلاً بالشيوعية السوفياتية كان
موجودًا على الضفة الأوروبية الأخرى. أما التدمير في العراق فلم يقضِ على الحكم الذي كان قائمًا في
العراق فقط، بل على كامل مؤسسات الدولة (ونضيف من عندنا أنه يحاول جاهدًا، وبمعاونة اقليمية بكل أسف،
تقسيم المجتمع طائفيًا إلى أقصى الحدود). وتشير تقارير أخرى أن تنظيما مثل "داعش" يستخدم صور الممارسات
الغربية في العراق مثل ممارسات شركة بلاك وتر وما جرى في سجن أبو غريب لتدريب عناصره على أقصى درجات
البربرية متمثلين بما قامت به القوات الغربية في هذا البلد الذي أعلنوا وقتها عن تحريره من
الديكتاتورية، الأمر الذي دفع أعداداً من الشبان العرب والمسلمين إضافة إلى شبان ذوي أصول عربية
وإسلامية حتى في أوروبا وأميركا، إلى السفر للجهاد في سوريا و العراق. هنا لا يعود مستحيلاً السؤال عن
العلاقة بين عنف الغرب وعنف العرب والمسلمين!
استاذ جامعي
لبناني |