التاريخ: أيار ١٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
يكفي مبرِّراً لبقاء لبنان وجودُ الجامعتين الأميركية واليسوعية - جهاد الزين
المدهش في كل هذا المشهد أن مسيحيّي لبنان وهم يرون أنفسهم في أضعف حالاتهم السياسية لا سيما مع "انقراض" مسيحيي المنطقة الشامية العراقية يبدون من جهة مقوماتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الأساسيّة، وإذا جاز القول النمطية، يبدون في أقوى أيامهم!
 
التعليم الذي تمنحه شبكة من المدارس الابتدائيّة والثانوية الخاصة في لبنان لا مثيل له في كل المنطقة العربية بل حتى أنه يستطيع أن يُنافس عالميا وليس شرق أوسطيا فقط. ثم التعليم الجامعي المتمثِّل بجامعتين رئيسيّتيْن خاصّتين هما الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعيّة وبعض الجامعات القليلة الموازية أو الملتحقة بفلك الاثنتين.

في التعليم الابتدائي والثانوي الشبكة واسعة رغم نخبويتها المحصورة بالقطاع الخاص هي أيضا بمئات المدارس، وفي مقدِّمِها المدارس الكبرى، تنتشر في جميع المناطق وخصوصاً المدارس التي تشرف عليها المؤسسات الدينية المسيحية في مناطق المسيحيين والمسلمين.

التعليم الرسمي لا حساب له في مجال القوة التعليمية اللبنانية كقوة إنتاج وطني وهو في شبه انهيار يواكبه على المستوى الجامعي انحطاط الجامعة اللبنانية الذي يبلغ حد الكارثة الوطنية (عدا "جزر" قليلة جداً فيها).

كان رأيي دائما في السنوات الأخيرة أنه في ظل التفحيش بل الانفلات السياسي السُنّي الشيعي لو لم يبقَ مقَوِّمٌ أو مبرِّرٌ لـِ"الوطنيّة اللبنانيّة" لبقيَ قطاع التعليم الخاص (محذوفةً منه طبعا دكاكينه البائسة) مبرِّرا كافياً لـ"الليبانيسم".

نحن بالنتيجة بلد أقوى وأبقى ما فيه جامعتان "عملاقتان" هما اليسوعية والأميركيّة وبعض جامعات قليلة على ضفافهما.
نتحدّث هنا عن قوة إنتاج وطني على مستويين:

مستوى تصدير الكفاءات الشابة اللبنانية إلى أرفع جامعات العالم بعد إنهاء دراستهم الثانوية أو المرحلة الجامعية الأوّليّة. الأوّليّة لأن الجامعتين الأميركية واليسوعية هما جامعتا تعليم رفيع المستوى ولعلهما الأهم في العالم العربي ولكنهما ليستا جامعتي إنتاج أبحاث بمواصفات عالمية في أي مجال مما يجعلهما فقط ومنذ عقود مَعْبَراً محترَماً إلى جامعات العالم الغربي المنتجة في المجال البحثي. لهذا هما جامعتا تصدير إلى الخارج بمعايير الخارج. بمعنى أنهما أقرب إلى معاهد إعداد تمهيدية محلية راقية لمراحل جامعية أعلى ليست موجودة إلا في الخارج.
المستوى الثاني هو استقبال طلاب من الخارج أو الأدق من الداخل العربي. وهذه "وظيفة"، صحيحٌ أنها لم تعد إلى ذروتها التي بَلَغَتْها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ولكنها عادت تملك مقوِّمات إعادة تعزيزها، ليس فقط في ظل انتقال المنطقة إلى مرحلة الانهيار، وهذا جديد في تاريخها المعاصر، بل أيضا لأن البيئة المدرسية والجامعيّة اللبنانيّة، بما هي بيئة بيروت الحداثية الثقافية لا تستطيع أي عاصمة محيطة أو قريبة منافستها في النسيج الخاص الذي تقدّمه حتى مدينتان مثل القاهرة العريقة ودبي الجديدة.

هذه المقارنة مع المنطقة لا تشمل إسرائيل في المجال الجامعي لأن جامعات هذه الجارة - الآخذة على ما يبدو حثيثاً في أن تصبح "شقيقة" - هي جامعات إنتاج بحثي رائد على المستوى العالمي في العديد من المجالات لا سيما العلمية. ولكنها، أي المقارنة، تشمل إسرائيل في مجال التعليم الابتدائي والثانوي الذي يتفوّق فيه لبنان على إسرائيل بثلاثيته اللغوية العربية والفرنسية والانكليزية الواسعة التي تقدّمها مدارس نخبوية لبنانية كثيرة، نخبوية في تعليمها، ولكنها، وهي كلها في القطاع الخاص، ليست نخبويةً عددياً أي ليست قليلة. فبواسطة التعليم الخاص، يستطيع طلاب مجتهدون في بعض أقاصي الأرياف اللبنانية أن يتقدّموا بنجاح إلى امتحانات دخول إلى جامعات أميركية وأوروبية مهمة.

عندما "أَغلق" أو أُغْلِقَ لبنان عام 1975، لم يبقَ منه مشروعا ومتيناً سوى التعليم الابتدائي والثانوي الخاص (مع حذف الدكاكين الكثيرة) والجامعتين الأميركية واليسوعية. اليوم بعد الحرب وسنوات السلم أكاد أقول إن الوطنية اللبنانية هي اليوم وطنية تعليم وليس أي شيء آخر في ظل انهيار القطاع العام، الذي حلم بعكسه جيل فؤاد شهاب وتلامذته وحقق بعضا منه بما فيه في التعليم الثانوي الرسمي دون أن يتمكن من ضبط مسيرة الخراب الاستراتيجي التي بلغتها الجامعة اللبنانية.

يمكن للبعض أن يعدِّد القطاعات "المنتجة" اللبنانية بالطريقة السلبية التالية ولكن الحقيقية فيقول إنها:

التعليم، الاستشفاء، الإعلام، الترفيه، المخدرات، تبييض الأموال (رغم الضوابط الأميركية المستجدّة الجادة) والآن خدمة حروب المنطقة بتجارة السلاح والآثار والشبكات التنظيمية من كل الأنواع المخابراتية والثورية. هذا صحيح ولكنه ذلك المزيج المتداخل الذي يصنعه التاريخ اللبناني منذ تَلازَمَ النزوعُ إلى الحرية في "لبنان الكبير" مع ضعف الدولة أي ضعف القانون، تلازمُ أزماتِ المنطقة التي تجتاحه من حين لآخر والبنية التعليمية المتميِّزة للمسيحيين بفضل قرون من التعليم الإرسالي والرهباني مع عجزهم عن بناء وطنية سياسية متماسكة والآن الحرب الأهلية العربية السنّية الشيعيّة والتحاق جيل جديد من نخب الطائفتين غير المشروط بقوى الإقليم.

المدهش في كل هذا المشهد أن مسيحيّي لبنان وهم يرون أنفسهم في أضعف حالاتهم السياسية لا سيما مع انقراض مسيحيي المنطقة الشامية العراقية يبدون من جهة مقوماتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وإذا جاز القول النمطية... يبدون في أقوى أيامهم التي لا تجعلهم حاجة بل حاجة وحيدة لبقاء لبنان السياسي فقط وإنما أيضاً تُحقِّق استعادتَهم لمعنى لبنان بشكل لا تستطيع أي مجموعة لبنانية أخرى منافسَتَهم عليه.

نعرف حجم الإحباط بل اليأس العميق الموجود لدى مسيحيي لبنان من الوحشية الأيديولوجية التي لا تزال تفرزها المنطقة بكل تنويعاتها ولا سيما باسم الدين الإسلامي، ولكن أيضا هم يعانون في العمق من مستوى تفاوت جاد بين نخبتهم السياسية التابعة وبين طاقاتهم وإمكانياتهم المحلية والعالمية.

المسيحيّون اللبنانيّون هم اليوم في أعلى مستوياتهم المتداخلة بين المقيمين والدياسبورا الغربية التي بات يجب أن يُحسَب حسابها في كل الطوائف في صياغة رؤية سياسية للبنان. لقد نشأت وتبلورت في متروبولات الغرب في العقود الأخيرة نخب متقدّمة لبنانية من مختلف الطوائف، بالتوازي مع نشوء نخب عربية وعالمْثالثية، آن الأوان لتلعب دوراً سياسيا في لبنان. نخب موجودة في قلب النظام الثقافي والعلمي والاقتصادي الغربي ولا تزال مقطوعة عمليا ليس عن بلدها ولكن عن الحياة السياسية فيه وهذا أيضا ينطبق على المسيحيين والمسلمين. من شأن ذلك أن يضيِّق الهوة القائمة بين تقدّم قطاع بنيوي منتج وخلاق كالتعليم، بالمواصفات التي أشرنا إليها أعلاه، وبين تخلّف "القطاع" السياسي وتبعيّته وعبئه لا على الاقتصاد فقط بل على أمن البلد أيضا. تضييق هذه الهوة يمكن أن يعيد بناء وترتيب بنية الدولة على استراتيجيات تعتمد وتعترف بعناصر القوة اللبنانية الأصيلة. سقطت طبعا المدرسة التبسيطية التي حملتها النخبة المسيحية الأولى في دولة لبنان الكبير عن الوطنية اللبنانية كـَ"دولة أمة" وتحطمت على أرض ثقافة الواقع. لكن اليوم ثمة ما يتيح لوطنية أعمق أن تولد: وطنية غير وطنية لا تنبني على السياسة المباشرة بل على القوة الإيجابية للتنوع اللبناني، وبالنسبة لنا نحن المسلمين في التعامل مع المسيحيين كفرصة لن تتكرر في المنطقة خارج لبنان.

بصورة مجرّدة عن معرقلات الواقع الانهياري للمنطقة يمكن افتراض أن مستقبلاً ما يُعاد فيه تدجين التوحّشَيْن الشيعي والسُنّي داخل النسيج الكياني اللبناني بعد انفجارهما فيه وخارجه يمكن أن يعطي فرصةً لاستعادة لبنان الكبير إذا تلازم ذلك مع استمرار دعم دولي.
هذا بلد ضعيف سياسيا ولكنه قوي على مستويات مختلفة. وأحيانا ينتابني

شعور أكثر من جدي بأنه يكفي وجود الجامعتين الأميركية واليسوعية على أراضينا مع استحالة نقلهما من لبنان، وحتى من مجمعيهما الحاليين رغم توسعهما الدائم إلى مناطق جديدة، يكفي ذلك لكي يكون بقاء لبنان مضمونا. إنهما الجامعتان اللتان تحتضنان كفاءاتٍ عالية من كل الطوائف. وبات لهذا التنوع النخبوي داخلهما تاريخ حقيقي.

لم نتورّط ببعضنا فقط، تورّط الغرب فينا وبنا أيضاً. أرقى أشكال "التورّط" هاتان الجامعتان.