ما زال الوعي العربي السائد تائهاً بين مسلكين: إمّا تجاهل الماضي والامتناع عن الحديث عنه لتفادي ارتداداته على الحاضر، وإما العيش ذهنياً في ذاك الماضي تعالياً على الحاضر وهروباً من خيباته. وفي الحالين، تظلّ العلاقة بالماضي انفعالية مضطربة لا جدوى منها.
قد تبدو القضية نظرية ومجرّدة، بل قد يعتبرها بعضهم من باب الترف الفكري، لكنها في الحقيقة جديرة بأن تعدّ أمّ القضايا. فها نحن نرتطم مجدّداً بها، والشرق الأوسط الكبير يعيش مرحلة جديدة من حرب دينية غير معلنة، لا تختلف عن حرب الثلاثين سنة التي عاشتها أوروبا بعد القطيعة بين الكاثوليك والبروتستانت. إنّ حربنا غير المعلنة نتيجة إلغائنا التاريخ واستبداله بمجموعة من السرديات المنوّمة التي تختصرها مثلاً هذه الشعارات: أمّة واحدة، إسلام بلا مذاهب، حضارة فريدة، شرق روحاني مقابل غرب مادي، مؤامرة متعدّدة الأطراف «نحن» (من نحن؟) ضحاياها.
دعوى الأمة الواحدة لم نبدأ بمراجعتها جديّاً إلاّ بعد غزو الكويت. آنذاك بدأنا نفهم ما كان بالإمكان فهمه قبل عقود، وهو أنّ الوحدة مجرّد سلاح سياسي يستخدم لمصالح قطرية، وأنّ الاشتراك في اللغة والثقافة يمثّل عامل تقارب لكن لا يمكن أن يصبح في ذاته برنامجاً سياسياً جامعاً. لكنّ الدرس بقي ناقصاً، لأننا سرعان ما استبدلنا أسطورة الوحدة العربية التي نشرتها الحركات القومية بأسطورة الوحدة الإسلامية التي نشرتها الحركات الإسلامية، مع أنّ الثانية أشدّ استحالة من الأولى، والاشتراك في الدين لا تترتّب عليه بالضرورة وحدة المصالح أو القيادة السياسية.
بل إنّ الجانب الديني نفسه لا يمكن أن يقوم على وحدة في المطلق، ودعوى استعادة إسلام بلا مذاهب هي أيضاً دعوى مستحيلة. طبعاً، الإسلام واحد، مثلما المسيحية أو اليهودية أو البوذية واحدة، لكنّ تاريخ الإسلام مثل تاريخ كلّ الأديان، شهد انقسامات جذرية وتوزّع إلى ملل ونحل وجماعات وطوائف، وهذا واقع قائم لا يمكن تغييره، والمهم أن تحترم المجموعات بعضها بعضاً.
لكن في كلّ مرّة نسينا هذا الدرس التاريخي وقعنا في الفخّ. وكان آخر الفخاخ المنصوبة ثورة إيران التي صنّفت ثورة إسلامية، مع أنها كانت ثورة مذهبية، وربما كانت مفيدة لأصحابها، لكنها لم تكن مؤهلة لتحقيق المستحيل وتوحيد المسلمين على خطّ سياسي واحد، بقدر ما أعادت شروخاً ماضية وقضايا مذهبية قديمة ومصالح سياسية مغلّفة بالدين. ولم نكن نحتاج إلى حسم الخلاف بين المذهبين السني والشيعي ولا توحيد المسلمين، بقدر حاجتنا إلى دعم مشروع المواطنة في دولنا كي يسود فيها القانون ويندمج الجميع في منظومة الحقوق والواجبات المشتركة.
ثم تأتي سردية الحضارة الفريدة لتمنع التعامل مع الكوني وترسّخ تحصّن كلّ طرف بذاكرته المخصوصة، مع أنّ الحضارة العربية والإسلامية، بكل مكوّناتها وتياراتها وروافدها من دون استثناء، كتبت صفحات مشرقة في تاريخ الإنسانية، ورفدت البشر بالكثير من المنجزات المادية والعلمية، وهذا ما أقرّ به الدارسون من خارجها أيضاً. بل إنّ فضل بعض هؤلاء في إبراز جوانب الإبداع قد جاوز أحيانً ما قام به أهلها، مثل كشف تراث العلوم الطبيعية وفلسفة ابن رشد وتصوّف الحلاّج. وكان علينا، كي نكون بدورنا منصفين لأنفسنا، أن نقرّ أيضاً بأنّ هذه الحضارة لم تخلُ، ككلّ الحضارات، من العلل والشوائب، ومنها التعصّب الديني الذي طال أمده وعظم ضرره منذ أقدم العصور. فإذا لم نفهم أسبابه العميقة استحالت معالجة مظاهر استمراره في الحاضر.
وعلى عكس ما يظنّ بعضهم، لا تتمتع المقابلة بين حضارتنا الروحانية والغرب المادي بأي قيمة مقبولة. فكلّ حضارة تجمع بين الجانبين، وكل حضارة تتضمن صفحات بشعة من التقاتل من أجل المصالح والإسراف في الشهوات، كما تتضمن صفحات مشرقة من السموّ النفسي والتصوّف. وقد وجد في الغرب وما زال يوجد رجال دين كبار ومتصوفة مرموقون ولاهوتيون طبعوا الفكر الإنساني.
إنّ النظر إلى الماضي نظرة تمجيدية مقابل تبخيس الآخر حقّه إنما يعود في النهاية بالوبال على الذات أكثر من إضراره بالآخر، إذ يفتح الطريق للمزايدات في النقاء والمشاريع الطوباوية بما يصبح حملاً ثقيلاً على المجتمع وسبباً من أسباب صراعات لا جدوى منها.
وأخيراً، لا توجد مؤامرات، لا في الماضي ولا في الحاضر، وإنما تمنعنا سردياتنا المنوّمة من فهم الآخرين، بينما تمنحهم روح العقل والعلم القدرة على فهمنا بأفضل مما نفهم أنفسنا. ومحرك التاريخ ليس المؤامرة ولا الأخوّة، وإنما هو صراع مصالح، ومن فشل في تحديد مصالحه والدفاع عنها كان أولى باللوم ممّن استغلّ جهل خصمه لتحقيق مصالحه، ومن هانت عليه نفسه كان الأجدر بالتقريع.
كلّنا نشكو من التعصب، لكننا لن نقاومه بالكلام المعسول، ولا بدّ من إعادة رؤيتنا للتاريخ بطريقة واقعية، كي ننظر إلى الواقع بطريقة واقعية أيضاً، ونحدّد الممكن إنجازه ونقلع عن طلب المستحيل، ونسهّل سبل التعايش على أساس الممكن، ونتخلّص من السرديات المضللة. وبما أنّ المنطقة، كما يقال، دخلت مرحلة إعادة بناء جوهرية، فإنّ الفرصة مؤاتية كي نراجع المشاكل من جذورها. نحتاج إلى عاصفة حزم فكرية تنهي عهد المسكنات والحلول السطحية وتبني وعياً جديداً في عالم تتجدّد معالمه بسرعة مخيفة. |