التاريخ: أيار ١٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
الإرث المدمر لنقّاد «الليبراليين العرب»- سامر فرنجية
لا تكترثوا ببشار الأسد أو صدّام حسين أو حتى أبو بكر البغدادي، فهم هواة في موضوع العنف ولا يقارنون بالدمار الذي اقترفه محمد عبد الوهاب أو نجيب محفوظ أو جبران خليل جبران. هذا ما استنتجه جوزيف مسعد في مقالته الأخيرة، «الإرث المدمر لليبراليين العرب» (الأخبار، ٢٠١٥/٤/٧)، حيث يتّهم من يسمّيهم بـ «الليبراليين العرب من علمانيين وإسلاميين»، بكونهم «القوة الأكثر خطورة وتدميراً في العالم العربي».

فسجّل الليبرالية، أو بكلام أدّق «الليبراليون العرب»، وفق صاحب كتاب «اشتهاء العرب»، حافل بالتدمير والقتل، من زيادة مستوى القمع السياسي والبؤس الاقتصادي وتفشّي الفاشية في مصر، وغزو وتدخّل عسكري وحرب في ليبيا وسورية، إلى استسلام وحلّ للدولتين وانقلاب في فلسطين، واجتياح واحتلال ودمار في العراق وصولاً إلى حملة طائفية ضد الشيعة في المشرق العربي، وحرب على الأوروبيين المسلمين أو الذين من أصول عربية في الغرب. هذا «ناهيك عن لبنان والأردن والمغرب وتونس واليمن والسودان وغيرها»، حيث اقترف «الليبراليون العرب» ما لا يمكن البوح به لمدى شناعته.

لا شكّ في أنّ وراء دمار فاعل ومهول كهذا، لا توجد معارضة تُذكر. «الليبراليون العرب»، وهم ثمار «عقيدة آيزنهاور»، فئة مطّاطة تضّم كل من يختلف معهم الكاتب. فبالإضافة إلى محمد عبد الوهاب ونجيب محفوظ وجبران خليل جبران، تضمّ هذه المجموعة من القتلة والمدمِّرين، «المثقفين المصريين الساداتيين»، وجماعة الإخوان المسلمين، و «طبقة جديدة من المثقفين الفلسطينيين والعراقيين، وبحدّ أقل، الجزائريين». هذا بالإضافة إلى «منظمة التحرير»، و «أمراء آل سعود»، و «ملك الأردن النيوليبرالي الجديد»، وليبراليي «ربيع دمشق»، ومن ثمّ «الثورة السورية» ومثقفي قوى «١٤ آذار». وغير واضح مَن يقف خارج هذا التصنيف، غير «المنظومة الناصرية ما قبل الليبرالية» ونظامي البعث.

مقالة مسعد قد لا تكون مهمة بحدّ ذاتها. فيمكن بسهولة استبدال «الليبراليين العرب» بأية تسمية جماعية أخرى، كالغرب أو الاستعمار أو الرأسمالية أو الإسلام السياسي أو الذكورية أو الثقافوية أو الانحباس الحراري، ومع هذا يبقى التحليل محافظاً على تماسكه ورداءته في آن. فليبرالية «الليبراليين العرب» ليست فلسفة سياسية أو منظومة حكم أو فرضيات أنثروبولوجية أو تاريخية. والكاتب أعلن أنّه لن يكترث بتحديد ليبرالية أولئك «الليبراليين العرب». ما يهمه «كونهم يقدمون أنفسهم ويتم تقديمهم من جانب الآخرين على أنهم ملتزمون بمبادئ «الليبرالية»». هي مسألة تقديم للنفس، وخلاصته أنّه بالإضافة إلى دمارهم الشامل، فـ «الليبراليون العرب» كذابون، فضحهم الكاتب، ونوّرنا بحيث نكتشف أنّ هناك كذباً في السياسة العربية، وأن من يسمّون ليبراليين ليسوا بليبراليين.

بيد أنّ أهمية المقالة، والأهمية والرداءة لا تتناقضان، تكمن في كونها إشارة أو عرضاً لمشكلة أو معضلة في حقل الدراسات العربية، يمكن تلخيصه بالعلاقة المأزومة بين السياسة والنظرية. فمن جهة، باتت السياسة المحرّك الأساسي للدراسات الشرق أوسطية، بعدما تمّ اكتشاف استشراقية المعرفة وموقع هذا الحقل في صياغة أو تبرير سياسات الدول الغربية. ومن جهة أخرى، باتت السياسة، بمفهومها المباشر، غائبة عن نظريات قامت على أنقاض أوهام تسييس المعرفة. وفي الفجوة هذه، يقع العديد ولا يجدون كمخرج منها إلاّ سياسة التسطيح، التي تسقط زمان النظرية على زمان السياسة، وزمان الحقل على زمان الواقع، وزمان الولايات المتّحدة على زمان العالم العربي، فتُنتج نظرة كهذه ثنائيات لا تقلّ استشراقية عن ثنائيات المستشرقين الذي اعتبروا هذه الأزمنة منفصلة حضارياً. وإرث تحليل كهذا قد يكون أكثر دماراً من إرث جبران خليل جبران وسلمى حايك.

فكما سيّس مسعد نظرية ميشال فوكو عن الجنس في كتابه السابق «اشتهاء العرب»، وجرّها إلى حربه مع جمعيات الدفاع عن المثليين، ليستنتج أن معاداة المثليين هي نتيجة ظهور مفهوم المثلية، وبالتالي مسؤولية من يعرّف عن نفسه بأنّه مثلي، يعود اليوم ليسيّس النقد المعقّد والمتعدّد الأبعاد لليبرالية، ليلخّصه بموقفه من قوى ١٤ آذار أو منظمة التحرير الفلسطينيّة. فوفق هذا النقد، الليبرالية عنوان الكلانية الجديدة المسيطرة وليست الفلسفة السياسية التي عادةً ما ترتبط بهذا الإسم، وتشير إلى تقنيات حكم وبنية خطابية يقومان على عدد من الفرضيات الأنثروبولوجية والأخلاقية والتاريخية. إنّها الفئة التي ورثت «الرأسمالية» ومن ثم «الغرب» لتقدّم الأرضية التي يتلاقى عندها عدد من الخطابات النقدية في توصيفه للواقع. غير أنّ خط التوريث هذا ليس ثابتاً في خلاصاته السياسية. فإذا كانت الاشتراكية بديل الرأسمالية، ورفض الجوهرانية بديل الاستشراق، فـ «آخر» الليبرالية عدد من الممارسات والتقاليد «الما - قبل ليبرالية»، والتي ميزتها أنّها تطرح طرق «وجود - في - العالم» مختلفة عن النمط السائد، من دون أنّ تشكّل بديلاً له.

من هذا المنطلق، كلنا «ليبراليون» لكوننا نتيجة واقع ليبرالي. غير أنّ مسعد متسرّع وليس لديه وقت لتلك التعقيدات باسم محاربة الدمار الشامل الذي يشنّه أعداؤه. فيلخص الليبرالية بليبراليين ومن ثمّ بـ «ليبراليين عرب»، يصبحون مسؤولين عن تحوّل متعدد الأبعاد والأزمنة في نوع من المؤامرتية المبنية على نظرية رثة للوعي الزائف. هكذا تنتهي الليبرالية إلى «كذبة» بسيطة يتشارك فيها العالم بأكمله، ولا يفضحها إلاّ الكاتب الذي نجا من الليبرالية، هو وحزبا البعث.

بكلام آخر، يستعمل مسعد النظرية للهروب من السياسة والسياسة للهروب من النظرية في بحثه الدؤوب عن مخرج من هذه الفجوة. غير أنّه بدل الخروج منها، يجرّ السياسة والنظرية إليها، لتصبح مقالته إشارة إلى أزمة تفوق الكاتب. والأهم من ذلك، أنّ مقالة كهذه تؤجل نقد الليبرالية، بدل تفعيله، لتعيد الثنائيات ذاتها التي شلّت الفكر السياسي في المنطقة وعنها.

لسوء الحظ، ستبقى هذه المقالة معنا لفترة طويلة، طالما هناك حقل قابع في فجوة، حقلٌ يعتبر مقالات كهذه فتحاً سياسياً ونظرياً.