لسان حال غالبية السوريين، ربما منذ سنتين ونصف السنة: ليسقط النظام ومقارنة بذلك تهون كل الشرور. فطوال سنتين ونصف السنة، حظي النظام بصمت أو بدعم دوليين مكّناه من الصمود والبقاء، بل كان الحديث عن إسقاطه عسكرياً قبل نحو شهرين، بمثابة انفصام عن واقع الإرادة الدولية. ولئن أظهر الشقّ الإقليمي تصميماً مختلفاً عما قبل، فالأمر قد لا يعني حسماً قريباً، ولعلّ اللقاء المرتقب لقادة مجلس التعاون بالرئيس الأميركي، سيظهّر الآفاق السياسية للتقدّم الميداني، وقد يضع قادة المجلس أمام أسئلة واظب المسؤولون الأميركيون على طرحها، أسئلة تتعلق أساساً بالبديل الجاهز والمرتقب لمرحلة ما بعد الأسد.
إذاً، لسان حال الإدارة الأميركية يختلف تماماً عن لسان حال السوريين، وهي تضع مسألة البديل المقبول كعصا في دولاب التغيير، وهذا ما كفل طوال الوقت فرملة الحلفاء الغربيين والإقليميين، وهذا ما قد يعيق حالياً تثمير الانتصارات على قوات الأسد. وعلى رغم قراءة الظهور الإعلامي الأخير لحسن نصرالله وبشار الأسد على التوالي، من باب الطمأنة الشكلية لجمهورهما المشترك، مع إقرارهما للمرة الأولى بالانكفاء الميداني، إلا أنه يمكن العثور على إشارات الاطمئنان في خطابيهما اللذين لم يكونا ناريَّيْن على عادة خطابات الهزيمة العربية، وغالب الظن أنهما لا يريان حتى اللحظة تغيراً جوهرياً في السياسة الأميركية، وإذا دعمت الإدارة قدراً محسوباً من التقدّم الميداني كورقة ضغط سياسي، فيا مرحباً به، على أمل تفريغه من معناه لاحقاً.
مشكلة التقدّم الميداني الأخير، أن القوى التي حققته غير مقبولة دولياً، ويُستبعد قبولها محلياً كبديل يرتضيه السوريون، بخلاف الفصائل التي كانت تتقدم للسيطرة على دمشق في خريف 2012. ينبغي هنا استبعاد فرضيّتين: فالفصائل الإسلامية الحالية لن تُسقط النظام لتتولى الحكم بغطاء دولي وحتى محلي، ومن غير المرجح أيضاً جلوس قوى أساسية منها كـ «النصرة»، على طاولة المفاوضات، وذلك في الوقت الذي تمتلك فيه القدرة على عرقلة أي حلّ أو خيار سياسي ما لم تتعرّض لضغط وضبط إقليميين شديدين. في كل الأحوال، تأخر المستوى السياسي للمعارضة، على ضعفه وتفككه، عن المستوى العسكري الذي يُفترض به الآن تعويم الأول، من دون وجود رابط وثيق بين الطرفين سوى إرادة الأطراف الداعمة. دعوة المعارضة إلى لقاء في الرياض، قد تصبح مدخلاً جيداً لتحضير البديل فقط إذا تأكدت أطراف المعارضة من أن التغيير حتمي، وإذا امتلكت مع الجهات الداعمة إمكان فرض وثيقة مبادئ مشتركة على المستويين السياسي والعسكري، بشرط أن تحظى الوثيقة بقبول دولي ومحلي.
واحد من تحديات الانتصار الحالي، وهو الاحتمال الذي يريح النظام، أن يكون سقفه الجغرافي محدوداً، فلا يخفى مثلاً وجود خطوط دولية حمراء تمنع التقدم في منطقة الساحل، وهي خطوط حمراء جادة لا على منوال الخط الأحمر الكيماوي الغابر. أيضاً، حتى الآن، لا توجد مؤشرات الى دعم الجبهة الجنوبية ليصبح أصحابها في موقع هجومي فاعل، ومن المعلوم أن الجبهة الجنوبية تخضع لمراقبة أميركية لصيقة لقربها من العاصمة، ولترجيح أن يأتي أي تهديد حقيقي للنظام من خلالها. معركة القلمون التي يخوضها حزب الله والنظام، تضمر الارتياح إلى عدم وجود تهديد للساحل والعاصمة، وهي تُخاض لضمان عدم فقدان الربط بينهما ليس إلا، وإذا فقد النظام مواقعه الأخرى كافة وبقي مطمئناً إلى سيطرته على محور دمشق/ الساحل، فالاحتمال الغالب لن يكون التقسيم بل المضي في معركة استنزاف طويلة ترهق حلفاءه مثلما ترهق خصومه.
في التجربة، أي تقاسم للسيطرة لن يشجع النظام وحلفاءه على الدخول في عملية سياسية، لذا لن يُتاح لأي ضغط عسكري محدود الوصول إلى نتائج سياسية مقبولة. الأمر ينسحب على القاعدة المعلنة للحل السياسي، والتي تنصّ على التفاوض بين النظام والمعارضة لتشكيل جسم انتقالي من دون رؤوس الأول، إذ يصعب تصوّر رؤوس النظام متنحيةً لصالح الحلّ المنشود، وما لم تتغير الرؤية الدولية للحل، فذلك يعني عملياً عدم وجود نيّة للحل. الآن، بما أن المعركة مكشوفة، الطريق العملي هو مخاطبة إيران وروسيا والتفاوض معهما على تنحية رؤوس النظام، أما الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع رجالات الأخير فلا يعدو كونه مضيعة للوقت ولما تحقق على الأرض. وإذا لم تحن لحظة التسوية الإقليمية الكبرى، بسبب العناد الإيراني والروسي، فأفضل ما تتوجّه إليه الجهود هو إقناع الإدارة الأميركية برفع الحظر المضروب على التقدّم إلى دمشق تحديداً، لأنها أقصر الطرق وأقلّها كلفة.
وإن كان التشبيه مزعجاً أو مؤلماً للبعض، فلقد وقع النظام وحلفاؤه سابقاً، في فخ الانتصارات العسكرية، وبدا لهما الطريق مفتوحاً لمتابعتها وتحقيق انتصار ساحق ونهائي، لكن في أية لحظة لم يملك النظام أو حلفاؤه القدرة على تحويل انتصاراتهما إلى إنجاز سياسي، لأنهما افتقرا إلى دينامية تعمل على تسوية سياسية مقبولة. من جهة الحليف الإيراني تحديداً، كان واضحاً عجزه عن استيعاب التطورات الميدانية المواتية له في أكثر من بلد في المنطقة، ومن علائم العجز السياسي ذلك الطموح الإمبراطوري الذي أعلنه قادة إيرانيون بدوا كأنهم يعيشون في القرون الوسطى. لا يخلو من أهمية على هذا الصعيد، بروز النظام كقوة محض خارجية، وتالياً فقدانه القدرة على لعب دور سياسي داخلي، فحيث كان مرتاحاً إلى مستوى الدعم الخارجي، لم يتعرّض للضغوط التي تجبره على ذلك. قد تقع المعارضة وداعموها في المأزق نفسه، على رغم وجود قاعدة شعبية ضخمة مناصرة للتغيير، ففي حال بقي الأداء الميداني والسياسي رهن اختلاف الأهواء الإقليمية أو اتفاقها، ستبقى المعارضة كما آلت إليه حالها أخيراً خارج الواقع السوري.
الانتصارات الأخيرة لا تطرح تحديات على نظام الأسد فحسب، بل على من يعدّون أنفسهم أصحابها، وفي مقدّمها استطاعتهم تحمّل كلفة نظام معرّض للانهيار دفعة واحدة على شاكلة البعث العراقي. لقد دفع السوريون ثمناً باهظاً من الدماء بسبب الخشية الدولية من هذا المصير، وحتى الآن لا أفق للتغيير ما لم تقتنع القوى الدولية بحتمية انهياره، وما لم يجهز البديل مدعوماً بتصميم إقليمي على تحمّل التكاليف. |