لم يعد التصارع والانقسام مبرّراً بين الحركتين المهيمنتين على أحوال الفلسطينيين ونظامهم السياسي، إذ أن «حماس» وصلت إلى حيث انتهت «فتح»، بعد تحولها إلى سلطة قبل عقدين. بيد أن ذلك حصل وفق مصطلحاتها الخاصة، لكن بثمن باهظ، أي بكلفة حرب تلو الأخرى، وبعد حصار مشدد على غزة.
هكذا، فإن «حماس» كانت تأخذ على «فتح» ميلها للتسوية، ووقفها المقاومة المسلحة، في حين أنها هي باتت تتبنى المنهج ذاته، منذ وصولها إلى السلطة (2006)، بدليل ميلها لـ»التهدئة»، ووقفها المقاومة في غزة، باستثناء دفاعها عنها في الحروب الثلاث التي بادرت إليها إسرائيل. ومعلوم أن خالد مشعل تحدث مراراً عن قناعة حركته بانتهاج كل أشكال النضال، وأن لكل مرحلة شكلها النضالي، بل إنه في الحرب الأخيرة تحدث صراحة عن حرص الحركة على عدم استهداف المدنيين الإسرائيليين بالصواريخ. سياسياً باتت «حماس» تبدي تفهماً لهدف إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وفي حواراتها مع الأطراف الدوليين، ومع الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر وغيره.
فوق ذلك فإن «حماس» كسلطة باتت تقوم بما تقوم به سلطة الضفة، باستثناء التنسيق الأمني، أي في ما يتعلق بالشؤون المدنية. ذلك أن قطاع غزة يعتمد في بنيته التحتية وفي معابره التجارية على إسرائيل، ما يفترض وجود قنوات للتنسيق اليومي في هذه المواضيع الإجرائية، وحتى الانخراط في نوع من «الدردشات» مع إسرائيل بحسب تعبير أحمد يوسف، القيادي في حماس. و»الدردشات» هنا تتعلق بتنظيم العلاقة مع إسرائيل، وضمنه التفاهم معها حول الميناء والمطار والتهدئة لفترة زمنية طويلة (10-15 عاماً)، أي أنها مفاوضات سياسية بين كيانين بكل معنى الكلمة، وإن غير مباشرة.
على الصعيد الفلسطيني غدت سلطة «حماس» في غزة مثل سلطة «فتح» في الضفة، بل إنها بدت أكثر إقصائية في تعاملها مع الفصائل الأخرى، وأكثر سلطوية في تعاملها مع المجتمع، تبعاً لطابعها الديني، مع تقييدها الحريات، ومحاولاتها فرض أشكال معينة من السلوك والثقافة في المجتمع، بحيث أنها لم تستطع أن تقدم النموذج البديل، أي الأفضل والأكثر مقبولية.
في غضون ذلك بقيت المقاومة عند «حماس» تقتصر على الدفاع عن النفس، والمكانة، وصد الاعتداءات الإسرائيلية، أي لم تعد لديها، مثل غيرها، منذ انتهاء الانتفاضة الثانية (2005) قدرة على توجيه هجمات ضد إسرائيل، لا عبر عمليات مقاومة ولا عمليات تفجيرية ولا هجمات صاروخية (باستثناء الدفاع وقت الحرب)، وذلك بسبب حصار غزة، واستنزاف قدرات الفلسطينيين. وقد شهدنا أن مراهنات «حماس»، في الحرب الثالثة، في شأن فرض ميناء ومطار في غزة، لم تفلح، ولا حتى على مستوى زيادة عمق الصيد في البحر، أي أنها لم تستطع استثمار البطولات والتضحيات والعذابات التي بذلها الفلسطينيون في غزة، لأنها لم تصل إلى حد إيلام إسرائيل في شكل مناسب، ولأن هذا الاستثمار يحتاج أيضاً إلى أوضاع فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية ليست متوافرة الآن، أو في المدى المنظور. والمعنى هنا أن خيار المقاومة كما انتهجته «حماس» لم ينجح، مثلما أخفق خيار «فتح» المتعلق بالمفاوضة، من دون أن ننسى أن «فتح» هي صاحبة المبادرة في خيار الكفاح المسلح وفي التوقف عنه.
أيضاً لا يعرف عن «حماس» اهتمامها بتطوير العمل الفلسطيني، بعيداً من عقلية المحاصصة، ووفقاً لعلاقات التمثيل والديموقراطية، بقدر اشتغالها على تقاسم النفوذ مع «فتح»، في السلطة والمنظمة، إن لم يكن الهيمنة الأحادية عليهما. وعلى الصعيد السياسي فهي تقف أيضاً عند خيار الدولة في الضفة والقطاع، من دون النظر إلى خيارات أخرى، كخيار الدولة الديموقراطية الواحدة، مثلاً. في المجال العام الخارجي تحاول «حماس» أن تتحرك وحدها، مغلبة في ذلك واقعها كحركة إسلامية على واقعها كحركة وطنية، ما يفسّر اهتمامها بقضايا الميناء والمطار في غزة، من دون اعتبار لمحدودية الكيان الفلسطيني، ويأتي ضمن ذلك سعيها الى استعادة علاقاتها مع إيران، على رغم كل ما تمخضت عنه سياساتها الطائفية في المنطقة، من لبنان إلى اليمن مروراً بالعراق وسورية، في سبيل تأمين مواردها المالية. وفي هذا الأمر بالذات لم يعد ثمة فارق بين «فتح» و»حماس»، في الارتهان للموارد الخارجية وتقديم تنازلات سياسية، في وضع بات فيه الفلسطينيون، بعد السلطة، يجدون أنفسهم إزاء ما يشبه مقايضة اضطرارية بين استمرار كفاحهم من أجل حقوقهم الوطنية أو استمرار الرواتب الضرورية لتمكينهم من البقاء في أرضهم وتدبر أمور عيشهم.
يستنتج من كل ذلك أن الفوارق العملية بين الحركتين، وبعيداً عن المزايدات الخطابية والعصبيات الفصائلية التي تحلل لفصيل ما تحرّمه على غيره، لم تعد كبيرة، في المقاومة والتهدئة وخيار الدولة في الضفة والقطاع والمفاوضة والسلطة والتعامل مع المجتمع. لذا فإن التصارع والانقسام السائدين لا يمكن تبريرهما إلا بالصراع على الموارد والمكانة والسلطة.
ما يؤسف له أن حال الاختلاف والتصارع والانقسام بين الفلسطينيين لا تتم وفقاً لمنظورات السياسة، والمصلحة الوطنية، واعتبارات الصراع ضد دولة الاحتلال، بقدر ما تتم وفقاً لمنظورات الصراعات القبلية. «فتح» و «حماس» تتصرفان في علاقاتهما الخارجية، وفي إطار التعبئة والتحريض الداخليين، كقبيلتين، تقف كل واحدة منهما في مواجهة الأخرى، أكثر من تصرفهما كحركتين وطنيتين، وهذه مصيبة، لا سيما أن ذلك يجري تحت سلطة الاحتلال، وهذه مصيبة زيادة.
باختصار، هذا واقع لا بد من التعجيل في التخلص منه، لأنه يعيق تطور الحركة الوطنية الفلسطينية، وضمنها «فتح» و»حماس»، كما يشوّش على إجماعات الفلسطينيين السياسية، وإدراكاتهم لأحوالهم، لما يريدونه ولما يستطيعونه، وهو الواقع الذي تستثمر فيه إسرائيل، ناهيك عن أطراف عربية ودولية وإقليمية، بالضد من مصالحهم وحقوقهم. |