التاريخ: نيسان ٢٧, ٢٠١٥
المصدر: موقع العربي الجديد
الشعب السوري غائباً ومفهوماً حاضراً - محمد ديبو
منعاً لأي التباس، يسعى هذا المقال إلى قراءة ما خلف الرطانة الإيديولوجية والثورية، محاولاً البحث عما يكمن في جوف مفهوم "الشعب السوري" الذي يتم التعامل معه بديهية منجزة ومنتهية، أو خلف شعارات من نوع "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد"، والتي هي فعل مقاومة بوجه الاستبداد، أكثر مما هي مقولة ناجزة متحققة في الواقع، في إغفال تام لحركة التاريخ البشري التي تؤثر في الجماعات والشعوب، وتغيّرها بشكل دائم، فمقولة الشعب ليست كتلة صامتة متشكلة، بل ناتج محصلة مجموعة من القوى التي تتعرض لها جماعات بشرية متعددة ومتنوعة (دينياً وإثنياً وثقافياً..)، بشكل إرادي أو لا إرادي، لتبقيها في إطار ما دون وطني، أو تجعل منها شعباً بالمعنى الحديث للكلمة، لنكون أمام صناعة دائمة ومستمرة لشعب ذي هوية متغيرة ومتحولة، فالشعب الفرنسي، اليوم، ليس نفسه قبل مائة عام.
 
في نقطة إشكالية أخرى، ذات صلة بموضوعنا، لا بد من إيضاح أن ثمة حضوراً كثيفاً للأمة والشعب العربيين، أو الأمة والشعب الكرديين أو الأمة والشعب السوريين (كما يطرحه الحزب القومي السوري الاجتماعي، تحت خريطة سورية الكبرى وليس في خريطة سورية اليوم)، مقابل غياب كلي تاريخياً وحضور خجول حديثاً (آخر عقدين ونيّف) لمفهوم الشعب السوري والأمة السورية، مع ملاحظة أن مفردة الأمة ترفق تلقائياً، في الحالات الأولى، في حين تغيب في الحالة الثانية، إذ نادراً ما نسمع كلمة الأمة السورية التي تحيل إلى الشعب الذي يعيش اليوم في سورية المعترف بها بحدود سايكس بيكو.
 
قد يعود الأمر إلى أن الحضور التاريخي الإثني للعرب والأكراد سابق للدولة السورية الحديثة، ولمفهوم الدولة عموماً الذي هو مفهوم حديث، ولد بعد تفكك وتراجع حضور الإمبراطوريات التي كان يعيش في كنفها أقوام وأمم وجماعات حافظت على تركيبتها، من دون تدخل من السلطة التي حرصت على مجرد إدارتها عبر أعيان تابعين، فتشكلت، تاريخياً، هذه الأمم قبل الدولة. ولكن من دون أن تحظى بأن تصبح شعباً بالمعنى الحديث للكلمة أيضاً، لحدوث افتراق بين الأمة والدولة بسبب الاستعمار، إذ إحدى مهمات الدولة أن تزيد قومنة شعبها، أو نقله إلى فضاء الحداثة عبر عملية دمج اجتماعي، تقترب من أن تكون عملية صناعة تأخذ وقتاً طويلاً، بهدف إحداث عملية التطور وتسريعها من فضاء الجماعات إلى فضاء الشعب - الأمة، من دون أن تقصي التنوع الثقافي في الوقت نفسه.

الانتماء إلى جماعة كبرى

مع بروز عصر القوميات الذي ربط بين الدولة والأمة، لم يتمكن العرب والكرد والأقوام الأخرى، بطبيعة الحال، من الحصول على دول لهم، فبقيت الشعوب، في حالتها البدائية الأولى، محافظة على شعور قوي بالانتماء إلى جماعة كبرى. ولكن، من دون أن تذوّب خلافاتها وجماعاتها الأولية في هذا الإطار الكبير، ومن دون أن تنتمي إلى وطن "سايكس بيكو" أيضا، فغياب الدولة - الأمة وعدم الاعتراف بالدولة الحديثة أبقى حضور الماوطني والماقومي في ثقافات هذه الشعوب أكبر من حضور الوطني والقومي، لغياب الدولة القومية التي مهمتها إحداث هذا الدمج، ولتشكل الدولة "القطرية"، عبر أطوارها المختلفة، وفق وعي مفارق لا يعترف بما هو قائم، فسورية ليست أكثر من محطة للوصول إلى الدولة - الأمة العربية والدولة – الأمة الكردية والدولة الأمة – الإسلامية والدولة الأممية، فكانت الجماعات والأحزاب (التي تشكلت أساساً وفق عقلية الجماعات، لا الأحزاب)، تعيش في حلم يصل إلى حدود المفارقة التي استمرت نحو قرن، ولا يزال لدى بعضهم، فلا الدولة ولدت، ولا الأمة - الشعب، تكوّنا بالمعنى الحديث للكلمة، في حين كانت الدولة "القطرية" المستبدة تفرض منطقها تدريجياً، وتتحول إلى استبداد عضوض، أوقف متعمدا عملية قومنة الدولة لشعبها الجديد، موقظا الإثني والطائفي والعشائري والقبائلي ليدوم حكمه، ما أوجد حالة من "الولاء الإيديولوجي الأسطوري تجاه الوحدة العربية. والولاء الفعلي الذي تستشعره المجتمعات البشرية يوميا وتعايشه على المستوى الميكروزومي الاجتماعي والإقليمي المتوارث من الماضي" كما يقول بالازوللي، وهو أمر ينطبق على كل الجماعات والإثنيات والطوائف السورية. ولأن السلطة، مهما بلغت قوتها، عاجزة عن إيقاف عمل منطق الدولة في قومنة شعبها (علم سوري، عملة سورية، فريق كرة قدم، نظام تعليم، وسائل إعلام، جيش، قوانين، مراسيم..) لأجل استمرار عمل الدولة، ولحاجتها له في أوقات الأزمات، كخطاب تعبوي، نما شيء من الوطنية السورية خارج الأسوار وبشكل خجول، ومن دون اعتراف رسمي به، شعبياً وسلطوياً، إلا بشكل متأخر (خلال العقد الأول من هذا القرن).
 
تاريخياً، ولدت القومية العربية، في أحد جوانبها، كحركة سياسية في رد فعل على سياسات التتريك من أعيان المدن والطبقة المتعلّمة الذين جعلوا العروبة إيديولوجيتهم لمواجهة العثماني، وللحفاظ على امتيازاتهم، ليدخلوا الثورة العربية الكبرى، في إطار تأسيس المملكة العربية التي لم يقيّض لها أن تتأسس بفعل موازين القوى التي أطاحتها، إذ لم يمر أشهر على تأسيس المملكة السورية المتحدة (بلاد الشام) بقيادة الملك فيصل في عام 1920 حتى جاء الانتداب الفرنسي، ليقسم حصته من أرض المملكة إلى دويلات طائفية (درزية، علوية) ومناطقية (دمشق، حلب)، لنغدو أمام مفارقة شعب عربي، وأقوام أخرى موزعة على دول حوّلها الانتداب إلى أداة للسيطرة والإخضاع والحرب على العروبة التي تشكل خطرا عليه، لنكون أمام فترة تأسيسية تقوم على مقاومة الانتداب الفرنسي بالعروبة البعيدة عن المشروع الدمجي (دستور 1920 فيدرالي تم وضعه قبل دخول الفرنسيين إلى دمشق بأشهر، ولم يتم توحيد الحكومات السورية إلا بعد عام 1930، ولم يتم توحيد البلاد إلا عام 1936 في حين يرد المنتدب بتقوية الجماعات الإثنية والمناطقية، من دون أن يفكر أي أحد بما يسمى "شعب سوري"، فمن يقرأ تاريخ تلك المرحلة يرى أن الخيارات من الداخل، قبل الخارج، كانت محصورة بالوحدة مع العراق أو الوحدة مع الأردن أو إعادة المملكة العربية الكبرى أو البقاء في إطار الكانتونات الصغرى التي تعبّر عن مصالح الإقطاع والأعيان والبورجوازية، بالتوازي مع صراع قائم بين أنصار الجمهورية والملكية، انتهى بالانحياز لصالح الأولى، في ظل عجز النخبة السورية التي حكمت الدولة السورية الوليدة منذ 1936، وبعد الانتداب من تنمية وعي وطني سوري، لغرقها في مصالح ضيقة، وتوزعها بين ولاءات (إيديولوجية، اقتصادية..) شديدة التباين، إذ حصرت السلطة بأربع مدن كانت تتحكم بالقرار السوري (حلب، دمشق، حمص، حماة) في مقابل إغفال المدن الأخرى، فتعطلت عملية الدمج مرة أخرى، ليبقى الولاء المادون وطني على ما هو عليه، خصوصاً أن ثمار عصر القوميات تساقطت محلياً عبر تشكل الأحزاب الراديكالية الثورية، منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وإن مقارنة بين الأحزاب المؤثرة التي تشكلت بين عامي 1920 و1950 (الشيوعي السوري اللبناني 1924، الشعب السوري-الشهبندر 1925، الكتلة الوطنية 1926، عصبة العمل القومي 1933، القومي السوري الاجتماعي 1932، البعث 1946، الشعب 1948..) سيبين أن الإيديولوجية نفسها المتطلعة إلى خارج الحدود السورية أكبر من المكتفية بحدود الدولة الوليدة، من دون أن تخلو هي أيضا من أبعاد خارجية، لتسحب الأولى القوى الداخلية والجماعات والطوائف والإثنيات نحوها، وهو ما خسرته السلطة الضعيفة والعاجزة عن تكثيف الصناعة الوطنية لهذه الفئات في الإطار السوري، من دون أن يكون بالضرورة بعيداً عن العروبة، ليتم أخذ هذه الفئات نحو أبعاد فوق وطنية، من دون أدنى انتباه أو تفكير بالوطني القائم، بل ترافق الأمر، أحياناً، مع احتقار شديد "للقطرية" و"عملاء الإمبريالية" و"الرجعية" و"أعداء الوحدة العربية" و "خيانة فلسطين" بعد النكبة التي كانت عملياً المسمار الذي دق نعش سلطة ما بعد الانتداب، ليهزم الجنين السوري مع هزيمة الليبرالية السورية الهشة، مع بدء عهد الانقلابات (1949) إلى الوحدة السورية المصرية (1958) إلى وصول حزب البعث إلى السلطة (1963)، حيث دخلت سورية في مرحلة معاكسة للتاريخ ومدمرة للوطنية السورية، لن تخرج منها إلا في بداية هذا القرن، وعلى وقع تحولات خارجية أكثر منها داخلية، حيث سادت، خلال نصف قرن، دولة إيديولوجيتها عربية، لا تعترف بسوريتها، وتقصي كل مكوناتها، تحت شعار "قلب العروبة النابض"، ما أيقظ الحس القومي للأكراد والآشوريين والتركمان السوريين بفعل القمع والتهميش، والحس الطائفي العشائري القبائلي المذهبي بفعل احتكار السلطة للطائفية وإدارتها، في مقابل اكتمال بناء الدولة السورية كمؤسسات، ولكن مفارقة للوطنية السورية والإيديولوجيا في آن، فمن حكم هي البورجوازية التي تحالفت مع السلطة (دمشق وحلب) وليست الإيديولوجيا التي تحوّلت، مع الزمن، إلى مجرد غطاء، فعملت الدولة هنا على قومنة شعبها باتجاهات متناحرة: عربياً بفعل إيديولوجية السلطة، وكرديا بفعل قمع الأكراد وولادة الأحزاب الكردية المدافعة عن الحقوق الكردية، وسورياً بفعل منطق الدولة ومؤسساتها (علم، منتخبات رياضة، عملة نقدية..) من دون أن تنجو حتى هذه من فخ العروبة، فأي سائر في دمشق سيرى جنباً إلى جنب مؤسسات الدولة السورية إلى جانب مؤسسات من نوع "اتحاد الفلاحين العرب" و "اتحاد الكتاب العرب" عدا عن كون "العربية" تسبق "السورية" في كل اسم!

وعي جديد

بعد عام 2000، سيبدأ وعي جديد بالتشكل، يعي نفسه بحدود الجغرافيا السورية الجديدة، إذ ستولد أفكار سياسية واجتماعية ومدنية سورية فقط، وستتشكل مؤسسات سورية تفكر بسورية فقط، إذ بعد انهيار المشاريع الكبرى (قومية، يسارية، إسلامية) وإفلاسها، سيعيد السوريون اكتشاف سوريتهم التي ستتغذى من روافد خارجية (احتلال بغداد 2003 وخروج الجيش السوري من لبنان 2005 وتداعيات المحكمة الخاصة بالحريري المستمرة) استغلّتها السلطة لشد العصبية السورية بوجه الخارج من دون أن تمأسسها عملياً، لحاجتها الماسة لبقاء العروبة كإيديولوجيا تبريرية. لكن، مع تفوّق وحضور أكبر للسورية على العروبة، على مستوى الخطاب والمجتمع المدني فقط، من دون المجتمع السياسي المقصى عن دائرة الفعل أساساً بسبب القمع، وهو أمر تقدم ونما ببطء شديد، طوال العقد الأول من هذا القرن، معززا بوعي كردي قدم نفسه بعد انتفاضة الكرد ضمن الوطنية السورية، من دون أن تحسن السلطة استثماره.

ولكن، هذا الوقت القصير (عقد فقط) لم يكن كافيا لصناعة وطنية سورية راسخة، ذات حوامل اجتماعية سورية قوية، تؤسس حقا لشعب سوري، إذ بقي المادون وطني – قومي حاضراً وبقوة، وهو ما ظهر للعلن في ظل الثورة السورية، إذ لم يصمد شعار "الشعب السوري واحد" أكثر من عام، ليتقدم بعده الدفين إلى ساحة المشهد، وما هذا الخلاف بين العرب والأكراد حول مفردة "العربية" في اسم الجمهورية، والحديث الطائفي العشائري المنفلت من كل قيد، إلا أحد المظاهر، من دون أن يعني ذلك أيضا أنه لا يوجد شعب سوري بالمطلق، بل هو موجود. ولكن، لا يعبر عن ذاته بالمعنى الحديث لمفردة الشعب، أي أنه بدون حوامل اجتماعية سياسية، تعبّر عن هذا الوعي الجديد (ألا يكفي دليلاً أن أكثر قوى المعارضة تعرّف نفسها بالعمق كردياً وعربياً أكثر مما تعرّف عن نفسها سورياً؟ في ظل عجز القوى السورية الجديدة عن مأسسة نفسها حزبياً وسياسياً). وهذا لا يكفي، لأن الشعب مفهوم متخيّل أساسا، وتصنعه، بشكل دائم وبفعل تطوّري، أحزاب وقوى تعترف بالحيز المكاني للدولة السورية، وتلتزم به، ومن قبل دولة لم تقم بمهمتها سابقا، وهي تتفكك اليوم، ما يجعل "الشعب" يزداد احتماءً بطوائفه وإثنياته (الأكراد والعرب في الجزيرة السورية، الحوارنة والدروز في الجنوب، الأقليات والسنة في باقي البلاد، القبائل، البدو..) إلى أن تعود للدولة قوّتها.
 
ومن هنا، أمام المجتمع المدني السوري، اليوم، مهمة جسيمة وصعبة، هي العمل على بناء وصناعة وحماية ما تبقى من الشعب السوري من جديد، إلى أن تعود الدولة السورية للعمل وفق عقد اجتماعي جديد، يتيح للحوامل الاجتماعية السياسية الجديدة التعبير عن نفسها، أولا، والوصول إلى السلطة، ثانيا. أما افتراض أن الشعب السوري بديهية منجزة ومنتهية، فليس إلا وصفة للخراب.