عندما كان الداعية السلفي الجهادي الأردني أبو محمد المقدسي يفاوض من سجنه في عمان «داعش» على إطلاقه الطيار الأردني معاذ الكساسبة، مقابل إطلاق السلطات الأردنية ساجدة الريشاوي، تمكن الرجل من انتزاع وعود من التنظيم بإتمام الصفقة، لكن في الصباح فوجئ بفيديو إحراق الكساسبة على ذلك النحو الوحشي. رد الفعل الأول الذي راح الرجل يبديه، كان تكراره عبارة: «من فعلها هم بعثيو تنظيم الدولة وليس شرعيوه»، وختم: «لقد كذبوا علي. هؤلاء كذبة».
يميل خصوم «داعش» من السلفيين الجهاديين إلى تفسير عنف التنظيم بالجذور البعثية لقادته الميدانيين. ويُجرون مقارنات بين عنفه وعنف نظام البعث العراقي، ذاك أن مشهدية وظيفية تجمعهما، ويجمعهما أيضاً نقل العنف من سويته العامة إلى سوية فردية. قتيل «داعش» له وجه واسم وقاتل محدد وذنب وسيرة خاصة، وهو نفسه قتيل المخابرات العراقية زمن صدام حسين، وإن لم يحظ الأخير بمجد الصورة، فإنه حظي بسيرة خاصة تتقاطع مع سيرة قاتله. أما قتيل «القاعدة» فبلا اسم ولا وجه. إنه «الصليبيون» و «الأميركيون» وعملاؤهم المحليون. لا هويات صغرى للقتلى، ولا مقابلات تلفزيونية معهم، وهم لا يُقتلون إعداماً إلا نادراً، بل في معارك وتفجيرات لا تستهدفهم هم، إنما تستهدف ما يُمثلون.
صار لهذه الوجهة ما يُعززها اليوم. إنه التحقيق الاستقصائي الكاشف لمجلة «دير شبيغل» الألمانية، والذي أرفق بوثائق عثر عليها الجيش السوري الحر في منزل حجي بكري، الشخص الثاني في «داعش» والذي قتله الثوار السوريون في منزل كان يسكنه في ريف حلب. فحجي بكري عقيد سابق في الجيش العراقي، ووفق المجلة «وجد نفسه بلا عمل بعد إعلان حل الجيش العراقي»، فأسس «داعش». هذا التبسيط بإضافة العبارتين الأخيرتين ينطوي على وقائع مذهلة كشفها تحقيق «دير شبيغل» عن آلية وصول «داعش» إلى المدن السورية، والخبرات الأمنية البالغة الدقة والذكاء والمُلمة بطبيعة المجتمعات السورية التي استولى عليها «داعش» من دون مقاومات تذكر. هذه الخبرات ما كان للتنظيم الوليد أن يُحصلها من دون كفاءات بعثية اختبرت لعقود وعقود علاقات عنف وإخضاع مع المُجتمعات المُسيطر عليها. رسومات حجي بكري البيانية التي نشرتها «دير شبيغل» والتي شكلت هرميات السيطرة وتفاوتاتها، كان يمكن أن يستبدل فيها أمراء «التنظيم» وولاته وقضاته بضباط الاستخبارات العراقية ورتبهم واختصاصاتهم.
والحال أن «القاعدة» تجرعت لقاح البعث خلال إمارة أبو مصعب الزرقاوي، الأب الفعلي لـ «داعش»، ومفيد جداً هنا العودة إلى كتاب الباحثين محمد أبو رمان وحسن أبو هنية «تنظيم الدولة – الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية» الذي يعرض بإسهاب لأبوة الزرقاوي لـ «داعش» ولانفصاله غير المعلن عن التنظيم الأم. كما من المفيد أيضاً العودة إلى معركة الفلوجة الثانية في 2004، حيث اختبر الزرقاوي الخبرات القتالية للجيش العراقي وأيقن أن لا «نصر» من دون ضباطه الذين صاروا بعد قرار حل الجيش بلا عمل.
ما أضافه تحقيق «دير شبيغل» هو الوقائع، وهو أيضاً أن «داعش» ابن أبوّتين: ذاك أن البعث السوري كان استضاف حجي بكري في دمشق خلال سنوات «المقاومة» العراقية، والتنظيم، وفق المجلة الألمانية، ليس ابناً عقوقاً لوالده الثاني، فقد أقام معه علاقات عرض التحقيق لوقائع منها. والصحيفة إذ ترد البناء الإجرامي للتنظيم إلى أشباه غربيين، لا سيما جهاز المخابرات الألماني خلال الحقبة النازية، فهذا إنما لضعف في معرفتها بالبعث وبالسلطة التي أنشأها في كل من العراق وسورية، على اختلاف التجربتين.
البعث سطا على «القاعدة» ووظفها في مشروعه لعراق ما بعد السقوط ولسورية ما بعد الثورة، وبدورها سطت «القاعدة» على الخبرات البعثية ووظفتها في خلافتها، ونجم عن هذا «التلاقح» هذا الكائن المُحير، أي «داعش». وحين نتحدث عن البعث هنا نعني تلك الخبرات السلطوية المتحصلة من الانخراط بآلة العنف النظامي في كلا البلدين، ذاك أن البعث فيهما كف عن كونه جهازاً حزبياً فعالاً، وتقدمته في النفوذ هرميات الولاء لـ «القائد» ولعشيرته وطائفته. وفي هذا السياق لاحظ مراقب عراقي أن ضباط البعث ممن تولوا بناء «داعش» وقيادتها، إنما كانوا قبل حل الجيش متوسطي الرتب (حجي بكري كان عقيداً)، وهم ارتقوا في رتبهم في ظل «الحملة الإيمانية» التي كان صدام قد باشرها في التسعينات، وهو ما يُرجح أنه أكسبهم قابليات تحويل القيم البعثية، التي لم يُقلعوا عنها، إلى ممارسات «إيمانية»، وساعدهم في هذا التجوال صدورهم عن عشائر وعن علاقات عشائرية لطالما نهل البعث منها ونهل تنظيم «القاعدة العراقية» أيضاً.
«الزرقاوي» هو من جعل لقتيل «القاعدة» في العراق وجهاً. والرجل جاء إلى العراق من أفغانستان عبر إيران في 2003، وكانت قتيلته الأولى البريطانية من أصل عراقي مارغريت حسن. والزرقاوي ابن نموذجي لمثلث «قاعدة - بعث - عشائر»، فهو من عشيرة بني حسن الأردنية الممتدة إلى خلف الحدود، وهو سافر لـ «الجهاد» في أفغانستان، واختبر خلال إقامته في العراق قيم العنف البعثية، وكان أول من اجتذب الضباط العراقيين للقتال معه في الفلوجة وغيرها. وبينما كان يتولى مهمة تحويل «القاعدة» إلى «داعش» كانت القيادة العالمية للتنظيم في أفغانستان تنظر بريبة معتقدة أنه يُغامر بعلاقتها مع طهران، التي كان يقيم فيها مئات من ناشطيها الهاربين من أفغانستان، ومن بينهم عائلة أسامة بن لادن وسليمان أبو غيث.
لم يعثر الجيش الحر في منزل حجي بكري في ريف حلب، بعد أن قتله واعتقل زوجته السورية، سوى على الوثائق التنظيمية لـ «داعش». قال الضابط الذي قتله لـ «دير شبيغل»: «لم نعثر على قرآن ولا على أي كتاب ديني»، على رغم أن الرجل أمضى شهوراً في المنزل.
حجي بكري الذي بنى سلطة «داعش» في سورية، وأسس في العراق لـ «خلافة البغدادي»، كان يعيش في منزل بلا مصحف!. والصورة التي ظهر فيها ملتحياً، تردك مباشرة إلى أولئك الضباط أصحاب المنازل الفخمة على شاطئ الفرات، مرتدين دشداشات بيض ويشربون الشاي، عقب قرار حل الجيش العراقي في 2003، القرار الذي جعلهم «بلا عمل». |