التاريخ: نيسان ٢٥, ٢٠١٥
المصدر: موقع العربي الجديد
واقع مريض ومطب تاريخي - صلاح الدين الجورشي
أهداني الصديق محمد أبو رمان كتابه الجديد الذي ألفه مع رفيقه حسن أبو هنية "تنظيم الدولة الإسلامية.. الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية"، وجاء ثرياً بالمعلومات الموثقة، وخصوصاً بالموضوعية والمنهجية التي اعتمداها لتحليل كم واسع من المعطيات الموزعة على مصادر مختلفة.

وقد فرضت ظاهرة ما تسمى السلفية الجهادية نفسها، اليوم، على الأمنيين والسياسيين والإعلاميين والباحثين، بعد أن أصبحت جزءاً من واقع إقليمي مريض، ومرشح لمزيد من التشرذم والانقسام والصراع الداخلي والخارجي. ويفهم من الكتاب أن هذه الظاهرة التي صدرت في شأنها كتب عديدة، ودراسات متفاوتة في القيمة والجدية، ليست وليدة الأشهر أو السنوات القليلة التي مضت. وإنما جذورها الفكرية ضاربة في التاريخ العربي الإسلامي، وكامنة في المنظومة الأصولية والفقهية القديمة. وعلى المستوى السياسي، تعتبر من ثمرات "الإسلام السياسي" المعاصر، وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، بمساراتها وصعودها وانكساراتها المتعددة.

مؤكد أن سيد قطب لو عاد إلى الحياة، وشاهد ماذا فعلت أفكاره بالإسلام وبالمسلمين، لأصابه الذهول، ولندم على أي كلمة كتبها في هذا السياق. ولكن، مع ذلك، فإنه يتحمل مسؤولية التحول الجذري الذي حصل في نسق تفكيره، ووفر الأرضية الملائمة لخروج مارد الغلو الديني والسياسي من قمقمه القديم، والذي أصبح، اليوم، يمثل معضلة للجميع: الأنظمة المستبدة، والدول الغربية، وخصوصاً بقية الحركات الإسلامية التي راهنت، ولا تزال، على المنهج السلمي في التغيير، وتحاول أن تتصالح مع الآليات الديمقراطية لتحقيق التداول السلمي على السلطة.

اعتقد جمال عبد الناصر أن العلاج يكمن في "اقتلاع" حركة الإخوان، بعد أن اصطدم بها مباشرة إثر الخلاف معها حول السلطة، لكن سياسته الأمنية أدت إلى سلسلة من جماعات يجمع بينها الاعتقاد بأن العنف المسلح هو الرد الحاسم من أجل اقتلاع "الدول الكافرة"، واستبدالها بدولة إسلامية تحكم الشريعة، وتكون مركز الخلافة. ومن هذه المجموعات المتوالدة، والتي ارتكبت جرائم، وليس فقط أخطاء تنظيمية وسياسية، بدأت تتوالى الأحداث المحلية والإقليمية والدولية التي مكّنت هذه المجموعات من التضخم. وكانت حلقة أفغانستان الأكثر إثارة، لأنها وفرت فرصة لما يسميه هؤلاء "جهاد التضامن"، ومنه الانتقال إلى "الجهاد العالمي" لمواجهة "العدو البعيد"، ممثلاً في الغرب، والولايات المتحدة الأميركية تحديداً.

عندما انهار أربعة رؤساء مستبدين في ظرف وجيز، في حركات الاحتجاج السلمي، توقعنا أن تلك الأحداث التاريخية بينت فشل منهج التغيير عند "السلفية الجهادية"، وظن كثيرون منا أنها استنفدت أغراضها. لكن، جاءت الأحداث مرة أخرى لتخدمها بشكل درامي، عبر مسارين. الأول، عندما فشل الإخوان المسلمون في إدارة الحكم في مصر. وثانياً، عندما انقلب الجيش والنخب الحداثية على الديمقراطية، بتأييدهما المسار الخطأ، لمواجهة خصومهما من الإسلاميين. وقد أعطى ذلك قوة دافعة للجماعات الأكثر راديكالية.

ومن جهة أخرى، فوّت النظام السوري على شعبه فرصة التحول السلمي والمتدرج نحو الديمقراطية السياسية، بدفعه إلى عسكرة الثورة، فحصل المأزق الكبير. كما لعب نوري المالكي في العراق، بدعم إيراني وأميركي، دور مروض الوحوش، فإذا به ينتج حرباً طائفية دامية بدون رحمة. وهكذا، وفّر النظامان السوري والعراقي فرصة تاريخية، لتمكين هذه الجماعات من أن يصبح لها أرض وجيوش وأموال ورايات وإعلام وأتباع. والأغرب أن تتلقى هذه الجماعات الدعم المالي والعسكري من حكوماتٍ، هي في الأصل عدوة لها، لكنها تصورت أنها يمكن، بتقوية هذه الجماعات، أن تحمي نفسها، وتحقق مصالحها القريبة والبعيدة.

كم تفتقر السياسات العربية للحد الأدنى من العقلانية، وحكومات كثيرة ظنت، ولا تزال، أنها الأقدر على إدارة سلسلة الأزمات التي تمر بها المنطقة، هي في الواقع أصل الداء، والمسؤولة تاريخياً عن تحويل الأمل إلى مطب تاريخي.