التاريخ: نيسان ١٩, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
قتل الأب والجد معاً - عمر قدور
يُروى أن موفد حافظ الأسد، في خضم المواجهة مع الإخوان، اجتمع بقيادة غرفة تجارة حلب مع ثلة من تجارها الكبار، وكما هو معتاد في اللغة البعثية العائدة لذلك الزمن أطنب في الكلام الأيديولوجي مبطناً توجيه اللوم للتجار على دعمهم المفترض للإخوان. بنهاية اللقاء بادر أكبرُ التجار سناً المسؤولَ بالقول: انظر يا بني، لقد تحدثتَ طويلاً وأعطيتنا محاضرة في العروبة والإسلام، سأختصر لك الأمر: لقد ربيناكم وعلّمناكم فصرتم مسؤولين ومثقفين و «أفندية»، أنتم ربيتم هذا الجيل فصار من الإخوان المسلمين وعليكم تقع المسؤولية لا علينا نحن.

قد يبدو كلام ذلك الشيخ راهناً تماماً لجهة الربط الشائع بين الاستبداد والتطرف، ولنا تخيّل الصدمة التي ربما أصابت المسؤول البعثي عندما ذهب ليحاور وسطاء عن الإسلام السياسي بوصفهم آباء رجعيين ليواجَه بأنه هو الأب الذي يلد الرجعية وفق منطوقه البعثي. لكننا إذ نجمع المنطوقين معاً سنحظى بالحفيد المشابه جده، على الشاكلة ذاتها التي تُطلق فيها أسماء الأجداد على أحفادهم في دورة تكاد لا تنتهي تقليدياً، بحيث يتناوب الأب والابن نفساهما على احتلال الموقعين طوال الوقت. من حيث الجوهر، هذا التشبيه لا يختلف عن المفاضلة المستمرة منذ عقود بين الأصولية والاستبداد، فاستمرارها يعني تبوؤ الحفيد موقع الجد كل مرة، سواء كان أصولياً أم مستبداً.

في الواقع أعتى ما يصله الاستبداد السيطرة على موقعي الأب والجد معاً، ففي المثال نفسه معلومٌ أن حافظ الأسد عمل على سحق الإخوان سياسياً وجسدياً، لكنه من ناحية أخرى جهد للهيمنة على الإسلام السوري، بما في ذلك رعاية المصادر الأكثر سلفية للإسلام. الفكرة المتسرعة الرائجة تنوس بين الترويج لمصالحة أقامها مع المرجعية الاجتماعية للإخوان وبين محاولة إنتاج إسلام «أسدي»، إلا أن الأمر تعين في مزيج يتراوح بين إسلام السلطان والإشراف شبه المباشر على مدارس سلفية حصل خرّيجوها في شكل غير رسمي على الميزة التي يريدها النظام، وهي التملص من أداء الخدمة العسكرية.

من بين ألقاب قد تزيد على المائة، كان اللقب المفضّل لحافظ الأسد هو الأب القائد، وبعدما كرس نفسه في موقع الأب الذي لا أب له كان لا بد من تأثيم قتل الأب على نحو مطلق. بالطبع أن يكون أباً لا أب له فهذا يعني اختزال جميع الآباء المحتملين في شخصه.

قبل حافظ الأسد، كان أنور السادات قد سبقه إلى لقب الرئيس المؤمن، وزاد عليه بتبني ما عرف حينها بـ «قانون العيب» الذي يكرسه أباً للمصريين. أيضاً كان السادات حينها يخوض صراعه ضد إسلامييه، محاولاً الهيمنة على ما يعتقد أنها أصولهم الدينية والاجتماعية، وأيضاً سيظهر السادات كأنه يتقمص موقع الأب والجد معاً، موحياً أنه الابن الذي يتصالح مع أسلافه بعد التخلص من رفاقه السابقين الضالين.

هنا، كي لا نقع في خديعة التحقيب الجيلي، علينا تذكر أبرز علمين في تاريخ الجهادية الحديثة، وهما أبو الأعلى المودودي وسيـــــد قطــــب، فاجتهاداتهما الأكثر تأثيراً على الحركات الجهادية أتـــت مــع منتـــصف الخمسينات، أي في الحقبة ذاتها التي انتعشت فيهــــا العسكرتاريا «الوطنية». هذا التزامن كفيل بوضع الطرفين علــــى الضفة نفسها جيلياً، وبجعل الإيحاء المخالف الذي يتبناه العــــسكر لا يعدو كونه نوعاً من إلقاء كل ما يستجد أمامهم من مشاكل على الماضي الذي انقلبوا عليه، الماضي الذي أصبح جاهليتهم.

لن يكون مهماً على هذا الصعيد أن العسكرتاريا استهلكت أجيالاً، من دون أن تتمتع الأخيرة بسمات جيلية حقيقية، طالما سينحصر التركيز على لحظة تأسيس الأولى واستمرارها، بل سيُعدّ الصراع الحالي استئنافاً للحظة الصراع القديمة ليس إلا. إننا بالأحرى أمام لحظة إنكار مستمرة، إذ إما أن يتماهى الأولاد مع الآباء أو مع الأجداد، وفي أحد أهم التحفظات على التغيير سيُقال لهم: حسناً، أنتم تريدون قتل الأب المستبد، لكن قبل الشروع بقتله عليكم قتل الجد الأصولي. ففي الاشتراط الأخير لا تصبح المهمة صعبة أو مستحيلة فقط، وإنما يجري التغاضي عن مسؤولية الأب الأصلية في قتل الجد، وترحيلها إلى الحفيد هو نوع من إعاقة قتل الأب مرة أخرى.

وفق فرويد، واحد من أعنف أنواع العُصاب يتولد من جراء الإحساس بالإثم نتيجة الرغبة في قتل الأب، ولا تقل الحالات التي يولّد فيها هذا العصاب مختلف أنواع العنف الذي ينصرف غالباً خارج مقصده الأصلي. تلازم الرغبة في القتل والعجز عنه، فضلاً عن الشعور العميق بالإثم، وصفة لاختزان شتى أنواع العنف، ومن السطحية قراءة فرويد على محمل شخصي فحسب، أي خارج الصراع الجيلي العام. الأبناء المتماهون مع الآباء أقل تعرضاً لذلك الصراع، لكنهم غير منزّهين عن العنف بما أنهم يتقمصون سلطة الأب القامعة، وأفضل من يجسد هؤلاء هم أنصار الاستبداد ومبررو وحشيته، وبالتأكيد مبررو وحشية داعش وأشباهه. لكن ما هو معكوس تماماً عن نظرية فرويد أن قتل الأب «بيولوجياً» أسهل من فكرة قتله، وهذا ما يُعبّر عنه عربياً بالصراع العنيف على السلطة، من دون الصراع حول فحوى السلطة ذاتها.

المــــفارقة الثانية الكبيرة تتلخص في أن يبدو التصالح مع الأب أسهـــل من التصالح مع فكرة قتله، فهنا يكمن مقتل أي رغبة في التغييــــر، وغير بعيد عن ذلك قد تقفز المبررات لتعالج إحساساً عميـــقاً بالإثم. على سبيل المثال، تجميع الحجج القوية ضد الاستبداد لتبــرير الثورة ضده ينمّ عن إحساس بالإثم إزاء فكرة الثورة وإزاء فكرة الحرية. فأصحاب الحجج مضطرون، إما أمام أنفسهم أو أمام محاوريهم، لإبرازها واكتساب مشروعية جماعية. ولا يندر في مثل هذه الحالات الالتجاء إلى الجد بوصفه أباً أفضل من الأب المباشر.

باستخدام الرمزية الفرويدية، سنكون أمام لحظة يتواطأ فيها الجد والأب على قتل الحفيد، وما يحتاجه الأخير لا يتوقف على القدرة على التصدي لهما، بل يتجاوزها إلى عدم الإحساس بالإثم لأنه يفعل ذلك. على المستوى الرمزي العام لا بد من قتل الآباء واعتبار الرغبة في قتلهم مشروعة في حد ذاتها، بخلاف هذا لا معنى لأي حديث عن الحاضر أو الماضي.