التاريخ: نيسان ١٩, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
عقيدة أوباما وروايته...- سامر فرنجيّة
رسم الرئيس الأميركي باراك أوباما، خلال المقابلة الأخيرة التي أجراها معه الصحافي توماس فريدمان، ملامح «عقيدته» الدولية، التي برّر من خلالها الاتفاقية النووية مع إيران وحدّد موقف الولايات المتّحدة من الحلفاء في المنطقة. والعقيدة، التي تسترجع في بعض جوانبها سياسات رؤساء ككينيدي ونيكسون، تقوم على مبدأ «الردع والاحتواء» كمدخل إلى سياسة «انخراط» فيما تقطع مع سياسات الإدارة السابقة. ومن تجلّيات هذه العقيدة، إعادة التواصل مع كوبا بعد قطع للعلاقات دام أكثر من نصف قرن، والتقرّب من إيران ولو كان على شكل «اختبار»، بحسب أوباما، وهو ما يمكن للولايات المتحدّة، الواثقة من تفوقها العسكري، أنّ تخاطر به.

غير أنّ عقيدة أوباما قائمة على رواية تؤمن تماسكها وتترجمها سياسياً، وهي رواية ظهرت في تفاصيل المقابلة مع فريدمان، وبخاصة في طريقة تعريف الرئيس الأميركي لطبيعة اللاعبين في الشرق الأوسط ودوافعهم. فإذا استثنينا الولايات المتّحدة، نسج أوباما دفاعه عن الاتفاقية حول ثلاثة أبطال أو لاعبين، تربطهم علاقات مختلفة بالولايات المتّحدة وبعضهم ببعض.

اللاعب الأول يظهر من عنوان المقابلة، وهو الشريك في الاتفاقية، أي إيران، التي على رغم الماضي العدائي الذي يربط بينها وبين الولايات المتّحدة والثقة المعدومة بينهما، ما زالت تشارك الولايات المتّحدة الطبيعة ذاتها. فـ«من المهم الاعتراف بأن إيران بلد معقد»، قال أوباما، قبل أن يضيف: «كما أنّنا بلد معقد». التعقيد إذاً يجمع بين هذين المجتمعين السياسيين ويُظهره وجود إمكانية التغيير فيهما. إيران ليست دولة ديموقراطية، ولكنّ نظامها «يستجيب بعض الشيء لجمهوره» وله «بعد براغماتي»، بحسب الرئيس الأميركيّ الذي استعان بانتخاب الرئيس روحاني للتأكيد على وجـــود دينامية شعبية في إيران تطالب بالانفتاح والاعتدال. وإيران ما زالت تُعتبر خصماً وفي قياداتها جوانب لا يمكن لأوباما تقبّلها، كالعداء للسامية أو لدولة إسرائيل أو للولايات المتّحدة، ولكّنها دولـــة «معقّدة» ذات مجتمع حيّ، ما يجعل سياسة الانخراط معها رهاناً واقعياً.

إيران ليست وحيدة في رواية أوباما، وتتنافس مع لاعب آخر، هو هدف المقابلة. وهذا البطل هو أيضاً دولة ومجتمع، تربطهما علاقات «عائلية» بالولايات المتّحدة. فإسرائيل تشاركها علاقات الدم وروابط العائلة والطبيعة الديموقراطية «القوية والمشاكسة» ذاتها، بحسب أوباما. وهذا ما يجعل الخلاف الحالي بين الدولتين خلافاً داخلياً. فهدف المقابلة إقناع الإسرائيليين بضرورة دعم هذه الاتفاقية التي تصبّ في مصلحتهم، خاصة وقد أكّد أوباما أن تفوق دولتهم العسكري له الأولوية عنده.

الرواية، إذا حصرناها باللاعبين الثلاثة هؤلاء، بدت رواية «سوء تفاهم»، يمكن لدول «براغماتية» أو «مشاكسة» ولمجتمعات حيّة وسلمية أنّ تتخطّاه وتعيش بسلام، هذا إذا... استُبعِد الخطر النووي.

بيد أنّ هناك مساحة شاسعة من الأرض تقع بين اللاعبين الثلاثة، وهي مساحة لا تحكمها دول ومجتمعات حيّة، بل يسكنها «عرب سنّة»، مقسّمون بين حلفاء الولايات المتّحدة من جهة و«شباب سنّة» ليس لديهم حالياً «شيء غير داعش ليختاروا منه» من جهة أخرى. في هذه البقعة من الأرض، ليست هناك مجتمعات يمكن التأثير عليها من خلال سياسة «الانخراط» أو دول «براغماتية» تستجيب بعض الشيء لمطالب جمهورها، بل بساطة ثنائية الحاكم-الحليف والشبان-الداعشيين، وهما عنصران لا أمل منهما. فعلى رغم تأكيد أوباما لحلفائه «العرب السنة» أنّ لا خطر خارجياً عليهم في ظل منظومة الدفاع الأميركية، وهو تأكيد جاء بوصفه وفاء لتحالف ورثته الولايات المتّحدة عن الماضي أكثر مما هو تأكيد على مصلحة مستقبلية، أصرّ الرئيس الأميركي على الإشارة إلى أنّ الخطر الأساسي الذي يداهم الحلفاء خطر داخلي. وهذا ما يتطلّب «حواراً صعباً» بحسبه. وهذا إنّما يختلف عن سياسة الانخراط مع إيران المفتوحة على مستقبل ممكن، وعن التنبيه الموجه إلى إسرائيل والمدعوم بشراكة تاريخية.

لقد عبّر أوباما في مقابلته المذكورة عن تحوّل في الرأي العام الغربي، لا سيّما الأميركي منه، والذي بات ينظر بملل وارتياب إلى علاقة الدول الغربية بحلفائها «العرب السنة»، بخاصة بعد فشل الثورات العربية وصعود «داعش». فإيران وإسرائيل دولتان، والأهم أنّهما مجتمعان يمكن لأوباما العمل معهما. أمّا ما يقع بينهما، فبات، تبعاً لرواية الرئيس الأميركي، إمّا أنظمة قضت على إمكانية التغيير السلمي، أو مناطق تسودها حروب أهلية وصعود إسلامي. فشل الثورات قضى على خيار المجتمعات وفشل سورية قضى على خيار الأنظمة، وما تبقى منطقة أشبه بالثقب الأسود، لا يصلها بالمستقبل إلاّ أنابيب النفط والطائرات من دون طيار. وهدف الولايات المتحدة، بحسب الرواية هذه، حماية المجتمعات الحيّة من جاذبية هذا الثقب من جهة، ودعم القيّمين على هذا الثقب من جهة أخرى، شرط ألاّ يخرجوا منه.

كذلك أنهى أوباما مقابلته بالتأكيد أنّ مصالح الولايات المتّحدة ليست «في النفط أو في الأرض»، بل في سلام المنطقة، حيث «لا يتعرّض حلفاء الولايات المتّحدة لهجمات، ولا يُقتل الأطفال بالبراميل، ولا يكون هناك تهجير هائل». وبموجب هاتين النظرتين إلى المنطقة، قسّم أوباما اللاعبين. فحلفاؤه السنّة باتوا ينتمون إلى عالم مصالح النفط والأرض، أما الدولتان المعنيتان بالاتفاقية، أي إسرائيل وإيران، فركنان من أركان مشروعه للسلام، مهما كان دورهما في الخراب الحالي. فهما في آخر المطاف دول براغماتية ذات مصالح ومجتمعات حيّة تفتح على إمكانية مستقبل ما.

يمكن الاعتراض على توصيف أوباما لحلفائه السنّة، أو تكرار معزوفة أن أميركا حليفة إسرائيل، أو التأكيد على تناقض رؤيته للمنطقة، أو الإشارة إلى مسؤولية الولايات المتّحدة في هذا الخراب. غير أنّ أوباما لم يتكلّم فقط كرئيس لبلاده، بل كجزء من رأيه العام. ولهذا الرأي العام، بات للداخل أهمية، قد تفوق المصالح الاقتصادية والسياسية، وهو انعطاف، مهما حاول الحلفاء «العرب السنّة» تجاهله، فالتجاهل لن يكون في مصلحتهم.