التاريخ: نيسان ١٦, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
قوة النظام السياسي القديم تتوارى ثم تحضر في الوقت المناسب - محمد سيد رصاص
عاد النظام القديم وانتصر إثر ثورتين: عام 1660 بعد الثورة البيوريتانية ضد ملك إنكلترا (1642 -1649) وعام 1815 بعد الثورة الفرنسية (1789). احتاجت إنكلترا إلى ثورة ثانية (1688- 1689) لكي تحقق أهداف الثورة الأولى في إعطاء السلطة للبرلمان وجعل الملك في وضعية: «يملك ولا يحكم». احتاجت فرنسا إلى أكثر من ذلك: أزاحت ثورة تموز (يوليو) 1830 آل بوربون العائدين عام 1815 بحراب الأجنبي بعد هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو لتستبدلهم بآل أورليان المتحالفين مع البورجوازيين المصرفيين والرأسمال العقاري بديلاً من تحالف الأرستقراطية الزراعية والكنيسة الذي كان وراء آل بوربون قبل ثورة 1789 وفي «عهد الإعادة». لم يشعر الصناعيون والفلاحون بأن نظام ثورة 1830 يمثلهم لذلك قادوا، مع الطبقة العاملة النامية، ثورة شباط (فبراير) 1848 وأقاموا «الجمهورية الثانية» بعد تلك التي أقامها ثوريو 1789 بعد إعدام الملك لويس السادس عشر.

كان تصادم قوى ثورة 1848 بعد انتصارها، سبباً في فشلها وانتهائه بديكتاتور نصب نفسه إمبراطوراً، هو نابليون الثالث، بعد انقلابه في 2 (كانون الأول) ديسمبر 1851 على البرلمان. لم يرجع النظام القديم الى بوربون وأورليان على رغم أن حزبيهما كان لهما عدد مرموق في البرلمان الفرنسي، وكان تنازعهما سبباً في ذهاب العرش منهما وفي نشوء ديكتاتورية فرد مغمور قليل المواهب نصب نفسه إمبراطوراً بحكم فراغ القوة الناتج عن تصادم القوى السياسية، سواء ذات الهوى الملكي بحزبيها أو الجمهورية، أكانت يمينية (=الناسيونال) أو القوى اليسارية الاشتراكية.

ظل النظام القديم الفرنسي قوياً، وكاد أن ينتصر بعد مئة عام من ثورة 1789 من خلال حركة الجنرال بولانجيه ضد «الجمهورية الثالثة»، التي جاءت على أنقاض «كومونة باريس» عام 1871 التي أتت حصيلة هزيمة نابليون الثالث أمام الألمان عام 1870، وهو المدعوم من قوى الملكية القديمة واليمين المحافظ والكنيسة، ولو كرر انقلاب 1851 في عام 1889 لكان طبعة ثانية عن نابليون الثالث. كان الحاجز أمامه هو الراديكالي كليمنصو، الذي منع تكرار ضعف جمهوريي (الناسيونال) قبل ثمانية وثلاثين عاماً، وقد كان فشل حركة بولانجيه طريقاً إلى دفن النظام القديم الفرنسي، وهو ما تكرس عام 1905 بفصل الكنيسة عن الدولة وبعلمنة التعليم، الأمر الذي أعلن نهاية عالم ما قبل 14 تموز 1789.

في عام 1856 أصدر شخص فرنسي من أنصار الملكية، هو أليكسيس دو توكفيل، كتاباً بعنوان: «النظام القديم والثورة»، انبنى على طرح مركزي مازال ينشغل به حتى الآن علم الاجتماع السياسي، بأن «الثورة ليست أكثر من لحظة غليان انفجاري للاتجاهات السياسية الكامنة في رحم النظام القديم». يمكن تطبيق هذا على إنكلترا: اتجاه نحو تقليص سلطة الملك المطلقة بدأ منذ ميثاق الـ «ماغنا كارتا» عام 1215. في فرنسا اتجاه نحو عصرنة المؤسسات يأخذ منحى المركزة وتقوية مؤسسات الدولة على حساب السلطات المحلية والكنيسة والأرستقراطية العقارية، بدأ مع لويس الرابع عشر (ت1715) وأوصله نابليون بونابرت (1799 -1815) إلى الذروة، ثم تابعته إصلاحات 1905 ثم ديغول في الجمهورية الخامسة منذ عام 1958. في روسيا القيصرية اتجاه نحو «التغريب»، بمعانيه الثقافية والاقتصادية- الاجتماعية على حساب «السلافية»، بدأ منذ بطرس الأكبر (1682- 1725) ثم مع (حركة الديسمبريين)عام 1825، وهو اتجاه تابعته ثورة أكتوبر 1917 البلشفية وأكملته إلى الذروة العليا، وهو كان عملياً مساراً تحديثياً لم يستطع فيه الشيوعيون البلاشفة سوى قيادة ثورة رأسمالية وليس اشتراكية، بحيث كان يلتسين هو الوريث الشرعي للينين وستالين وليس بريجنيف أو أندروبوف.

وفي العالم العربي، حصلت انفجارات مجتمعية في خمسة مجتمعات عربية على التوالي: تونس، مصر، اليمن، ليبيا، سورية، بين 17 كانون الأول 2010 و18 آذار (مارس) 2011. الثورة هي «تحرك عبر القلب واللسان واليد لأغلبية البالغين في مجتمع معين ضد السلطات القائمة من أجل قلب السلطة الحاكمة لإحداث تغيير جوهري في مجمل بناء الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية- الثقافية عبر بوابة السياسة». عبر هذا التعريف، يمكن القول إن ما حصل في تونس ومصر هو ثورة، وفي اليمن شبه ثورة، بينما في ليبيا وسورية لم يكن الأمر كذلك وإنما «حراك» لقسم كبير من المجتمع لم يصل إلى النصف، لذلك احتاج حسم الوضع في ليبيا إلى قوة خارجية، وفي سورية لهذا السبب، بسبب قوة ركائز السلطة الاجتماعية وضعف ركائز المعارضة في المجتمع مع ما انضاف لذلك من تداخل العوامل الاستقطابية الدولية- الإقليمية مع تلك المحلية المذكورة، كان هناك استعصاء سوري أمام تكرار لما حصل في تونس والقاهرة وطرابلس الغرب وصنعاء. في دمشق لم يسقط رأس النظام ولا بنيته، بينما في طرابلس الغرب سقط الرأس والبنية بفعل ترجيح القوة الخارجية لصراع أخذ منحى تعادلياً لمدة ستة أشهر بين السلطة والمعارضة. في تونس والقاهرة وصنعاء سقط رأس النظام من دون بنيته. إذا استخدمنا مقياس توكفيل: الانفجار في البلدان الخمسة، وبغض النظر عن نتائجه، يعبر عن اتجاهات اجتماعية كامنة في رحم النظام القديم لإنشاء أوضاع جديدة تتجاوز سلطة «الفرد القائد» أو «الحزب القائد».

يلاحظ في صنعاء 21 أيلول (سبتمبر) 2014 - 6 شباط (فبراير) 2015، أن رأس النظام القديم الذي أزيح بحكم اتفاقية 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 أعاد تحريك بنية نظامه القديم، العسكرية والأمنية والإدارية وحزبه، من أجل قلب الأوضاع الجديدة التي بدأت بالتشكل بعده، مستعيناً بتحالف مستجد مع خصومه السابقين أي «الحوثيين»، بعد ستة حروب خاضها ضدهم بين عامي 2004 و2010، لإزاحة وقلب الرئيس الجديد وحلفائه، أي الفرع الإخواني المحلي: «التجمع اليمني للإصلاح» واللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع. وقد ظهر عبر هذا التحرك أن بنية النظام القديم كانت قادرة بسهولة، بالتحالف مع الحوثيين ومع هشاشة تحالف ثالوث (منصور هادي- محسن الأحمر- الإصلاح)، أن تزيح سلطة ما بعد 23 نوفمبر 2011 وأن تظهر كم أن بنية النظام القديم لأعوام 1978– 2011 ما زالت حاضرة في اليمن.

في ليبيا يأخذ الصراع بين طبرق وطرابلس الغرب شكل صراع بين ليبراليين- فيدراليين من برقة وعسكريين من جيش القذافي، ضد «إسلاميين» يسيطرون على الغرب الليبي. إذا عزلنا الفيدراليين فإن أغلب الليبراليين من أمثال محمود جبريل، والعسكريين كاللواء خليفة حفتر، قد أتوا من النظام القديم كبنية وإن ثاروا على رأسه عام 2011، وهم يستندون الآن إلى البنية العسكرية- الإدارية للنظام القديم وإلى قاعدته الاجتماعية أيضاً ضد الإسلاميين. في تونس، وأمام صراع الحداثيين والعلمانيين واليساريين مع الإسلاميين، بعد أن كان تحالفهم عماد الثورة ضد نظام الرئيس بن علي، برزت قوة بنية النظام القديم وقاعدته الاجتماعية، كما ازداد بحكم ذلك الصراع، النكوص في قوة القوى الثورية لمصلحة ميل اجتماعي كبير الى استعادة قوة الاستقرار أمام اضطراب ما بعد الثورة، وهذا ما أبرز أرجحية اجتماعية في الانتخابات النيابية والرئاسية، حيث فاز فيهما حزب هو خليفة حزب الرئيس بن علي، وشخصية من رموز النظام القديم. في القاهرة لم يستطع حزب مبارك أن يقوم بذلك بسبب هشاشة بنيته، فيما عاد النظام القديم، أمام اضطراب وفشل حكم «الإخوان المسلمون»، عبر قوى الدولة المصرية العميقة، وأولاها مؤسسة الجيش، بالتحالف مع المؤسسة الأمنية ومع القضاء والجهاز الإداري، بدعم من حركة مجتمعية كبيرة ظهر حجمها يوم 30 حزيران (يونيو2013)، ما شكل الإطار الاجتماعي الذي استند إليه ما حصل مساء في 3 تموز 2013 في القاهرة.

* كاتب سوري