التاريخ: نيسان ١٥, ٢٠١٥
المصدر: موقع العربي الجديد
إعادة إنتاج الاستبداد - لميس أندوني
الأكثر ألماً في نجاح الثورات المضادة، حتى وإن لن يدوم، ليس عودة الاستبداد فحسب، بل في إعادة إنتاج ثقافة الاستبداد على المستوى الإعلامي والمجتمعي، وكأن هي تلك الحالة الطبيعية والعدل والإنصاف هما الشواذ.
 
لا يقتصر الموضوع فقط على الأنظمة بمختلف تسمياتها، ولا على المجموعات الدموية الملتحفة بالدين. لكن، على المجموعة القيمية المجتمعية، سواء في علاقات الأفراد أو علاقات العمل، فكل شعارات الحرية التي ملأت سماء العربي في بداية الثورات لم تترجم إلى تغييرات قيمية.
 
هنا، بيت القصيد في شراسة الثورات المضادة؛ لأن تغيير القيم وإحلال الكرامة مكان الخوف والتبعية يعني وعي الناس بحقوقهم، جماعة وأفرادا، ولأن تغيير القيم يعني استقواء المسحوق بالأسس الأخلاقية والإنشائية، وسيادة القانون.
 
تمكين الإنسان والمواطن هو آخر يريده ليس فقط الحكام، لكن نخباً كثيرة، حتى التي تجيد الخطب التقدمية والتغني بالعدالة والحرية، لأن هناك أزمة حقيقية، ترسخ على مدى عقود من الاستبداد، في التربية في البيوت والمدارس، فما يبنى على خوف يؤدي إلى نفوس مذعورة، قد تلجأ إلى قمع الأضعف في أول فرصة تتاح لها.
 
لذا لجأت النظم إلى الترهيب ونشر الذعر من خلال وسائل الإعلام، ولم تكن لتنجح من دون داعش ومثيلاتها، ما يثير أسئلة كثيرة حول حقيقة هذه المجموعات، إذ إنها خدمت الثورات المضادة، بل هي جزء منها، ما دفع قطاعات واسعة إلى عودة الظلم، بحثاً عن الأمان.
 
ويفسر انتصار الثورات المضادة أيضاً، إلى حد ما، القبول، بل تتوسل بعض النخب عودة الاستعمار تحت شعار الاستقرار، ورغبة بالتخلص مع إرهاب داعش والمليشيات المسلحة التي تعمل بعضها مع الحكومات مباشرة، لمنع الدمار وهمجية لا ترحم إنساناً، ولا تاريخاً ولا حاضراً.
 
التأثير النفسي العميق لما يحدث، والانتقال من فجر أمل مبشر بالحرية إلى ظلام التدمير والتنكيل والقتل والمجازر، أعادا الخنوع إلى نفوسٍ كثيرة، والخنوع هو الأداة الأهم لتحشيد الشعوب وتبعيتها لقبول الطغيان، وحتى المشاركة في القتل، كما رأينا، عبر التاريخ، بما في ذلك في عهد النازية. لكن الأثر النفسي سينعكس، أيضاً، على التعامل الإنساني، فنرى أن الشعور بالإحباط وبهزيمة الأمل يترك انطباعا عميقاً، بأن شعاراتٍ، مثل الحرية والعدالة، لا تعني شيئاً، وإن البقاء للأقوى، وإن القمع والتنمر، إن في البيت أو المدرسة أو العمل، شرطان للمحافظة على النفوذ والمكانة والسلطة.
 
نرى الدمار في أشكاله الظاهرة، وهي الأقسى، فمشاهد الموت والحرق والتعذيب والتجويع والتشريد موجعة إلى حد تخدير النفس والعقل من قباحتها، وعمق الألم الإنساني الذي لا يحتمل، لكن تدمير قيم الحرية والراحة الإنسانية تدمير للمستقبل، وليس للحاضر فحسب.
 
لا يعني ذلك أن جيل الشباب، وحتى الكهول الثوريين انتهى، فأقبية الزنازين شاهد على الصمود، هناك من يصارع ولا يستسلم، في كل أرجاء العالم العربي، لكن تدمير القيم الإنسانية هي ما يتيح للطائفية والعنصرية تفشيهما، ولأن تصبح كل منهما وسيلة للبقاء، وإن كانت هي في الحقيقة وسيلة لمنع تطور وعي مجتمعي بالحقوق والعدل.
 
ما نشهده من سياسة لممارسات القمع والاستبداد مصدره انهيار أسس الدولة، فلا تنظيم للعلاقات، ولا مكان لمفهوم حقوق المواطنة، فلا يسعف المظلوم قانون وتشريع، بل يتم العمل على مأسسة الظلم بقوانين تحت شعارات مختلفة، أهمها "مكافحة الإرهاب".
 
لا نفقد الأمل، بل علينا تجديده، لكننا نعلق الجرس.

لميس أندوني كاتبة وصحفية من الأردن، رئيس تحرير "العربي الجديد" بالانجليزية