شاءت تصاريف الأقدار أن تجد تيارات الإسلام السياسي بعضها وجهاً لوجه، في معمعان الثورات الشعبية العربية، حيث بات التنافس والاستقطاب والتصارع لا يدور، فقط، بين التيارات الدينية، المعتدلة والمتطرفة، الدعوية والجهادية، من جهة، والتيارات العلمانية والقومية واليسارية والليبرالية، من الجهة الأخرى، إذ هو بات يدور على أشدّه، أيضاً، داخل التيارات السياسية الإسلامية ذاتها.
هذا يتجلى، على ما نشهد، في التصارع بين التيارات السياسية الإسلامية «الشيعية» و «السنية»، لا سيما في سوريا والعراق ولبنان (واليمن)، إذ يحاول كل واحد منها استخدام العصبية الطائفية لصالحه في هذا الصراع الأعمى والمكلف والمدمر، مع رجحان كفة التيار الإسلامي «الشيعي»، بالنظر الى ما يتمتّع به من قدرة على الحشد والتعبئة والتنظيم، وبحكم ما يتميز به من تراتبية دينية، ونظام الجباية للموارد المالية، ووجود دولة مركز هي إيران، وتوافر مرجعية سياسية موحدة تتمثل بـ «الولي الفقيه»، وطبقة آيات الله الإيرانيين.
معلوم أن الإسلام السياسي «السنّي» يفتقد إلى كل ذلك، إذ ليس ثمة مرجعية دينية أو سياسية، ولا دولة مركز، ولا تراتبية دينية، فضلاً عن أن «السنّة» لم يتشكّلوا كطائفة متمحورة حول ذاتها، على مرّ التاريخ، لتملّكهم الشعور بعدم الحاجة إلى ذلك. ولعل هذا يفسّر تعدد تيارات الإسلام السياسي السنّي، واتساعها، واختلاف برامجها، وإخفاق كل محاولات تمثيل الإسلام السياسي «السني»، من جانب جهات دعوية أو سياسية أو دولتية، بل إن هذا الإخفاق حصل بسبب استعصاء جمهور «السنة» بالذات على الائتلاف كطائفة مغلقة على ذاتها.
بيد أن معضلة تيارات الإسلام السياسي «السنّي»، فضلاً عن كل ما تقدّم، تتمظهر في أنها تتنافس وتتصارع في ما بينها، ويحاول كلّ واحد منها تهميش الآخر، أو التقليل من شأنه، أو إلغائه أو تكفيره، بل ومحوه من الوجود، بدعوى أنه هو الذي يمثّل الإسلام الحقيقي ويحتكر تفسير الإسلام وتنفيذ شرع الله، كأن الله جعله وكيله على الأرض، وحكّمه بخلقه.
هكذا، شهدنا أن من أهم تداعيات الثورات الشعبية، انفجار الصراع بين التيارات السياسية الإسلامية «السنية»، المعتدلة والمتطرفة، السلمية والعنيفة، الدعوية والجهادية، لا سيما مع وجود جماعات «القاعدة» والانشقاقات عنها، من مثل «داعش» و»جبهة النصرة»، ومن لفّ لفّهما من منظمات «جهادية» مسلّحة، بخاصة في سوريا والعراق (وأفغانستان).
ومنذ بداية ظهور هذه الجماعات، مع الأفكار العدمية المتطرفة، والممارسات المشينة والغريبة التي ارتكبتها، أعلنت بوضوح رفضها لمعنى الثورات الشعبية، التي تتوخى الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية والتغيير السياسي، وعبّرت صراحة عن انتمائها الى القاعدة، أو الى أجندة أخرى لا علاقة لها بالثورات، ناهيك عن أنها اعتبرت الديموقراطية والمواطنة المتساوية والدولة المدنية نوعاً من الهرطقة والكفر. وفي المحصلة، فقد استطاعت هذه الجماعات، بفضل التسهيلات المريبة التي قدّمت لها، وبحكم توحّشها، وتوافر دعم مالي وتسليحي لها، فرض هيمنتها في العراق وسوريا، ما نجم عنه تشويه معاني الثورات الشعبية، وإثارة المخاوف منها في المجتمعات العربية، وحجب التعاطف الدولي عنها، بحيث أنها قدمت خدمة كبيرة للأنظمة الاستبدادية، التي كانت تسعى الى توظيف جماعات كهذه لتقويض شرعية الثورات، وعزلها في مجتمعاتها.
المشكلة أن التيارات الإسلامية المعتدلة والدعوية والسلمية، لم تحاول نزع شرعية هذه الجماعات المتطرفة، التكفيرية والإرهابية، توهماً منها أنها تستطيع استثمار عملها، واعتقاداً منها أنها ربما تؤدي إلى خدمة مشروعها مستقبلاً، الأمر الذي أثار المخاوف من مجمل التيارات الإسلامية، سواء كانت معتدلة أو متطرفة، سلمية أو جهادية، وشيوع اعتقاد أنه لا توجد تمايزات نوعية بين التيارات الإسلامية، وأن الفارق بينها هو فقط في الشكل أو في الدرجة.
في المحصلة، فقد نتج من ذلك كله انحسار نفوذ مكانة حركة «الإخوان المسلمين» والاتجاهات الإسلامية المعتدلة في سوريا، وفي بلدان أخرى، لصالح هذه الجماعات التي أضرت بالإسلام، وكفّرت مجتمعاتها، لأنها لم تدرك ولم تعمل على تمييز نفسها، وكونها لم تدخل في صراع على المستوى الفكري والدعوي مع هذه الجماعات المتطرفة، في ادعاءاتها الأساسية المتمحورة حول مفاهيم «الحاكمية لله»، والولاء والبراء، والخلافة، وشعار «الإسلام هو الحل»، وتكفير المجتمع، واعتبار الديموقراطية هرطقة، على غرار ما فعلت حركة «النهضة» في تونس، أو غيرها من الحركات الإسلامية في تركيا وإندونيسيا وماليزيا والسودان على سبيل المثال.
في الحالة السورية، تجلّى هذا الأمر في شكل دامٍ ومدمّر، إذ إن «داعش» بات يشتغل كرديف للنظام، في حربه ضد جماعات «الجيش الحر»، وفي سعيه الى فرض هيمنته القسرية على مجتمعات السوريين في المناطق التي تخضع لسيطرته، إذ ندر أن تواجه مع النظام، وبدوره فإن النظام لم يوجّه إلى التنظيم أية ضربات حقيقية. فوق ذلك، فقد جرت حروب بين «داعش» و «النصرة»، وبين كل واحد منهما وأحرار الشام أو جيش الإسلام وغير ذلك من جماعات كثيرة.
وأخيراً، حصلت في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين مواجهة دامية وكارثية بين «داعش» و «النصرة» من جهة، و «أكناف بيت المقدس» الموالية لحركة «حماس» وشباب المخيم المسلّحين، المحسوبين على المعارضة السورية، من الجهة الأخرى.
اللافت، أن هذا الاشتباك فاجأ قواعد التيارات الإسلامية، وضمنها «حماس»، التي طالما دافعت عن «جبهة النصرة»، وحتى عن «داعش»، ومواقفهما وممارساتهما، بدعوى أنهما يدافعان عما تعتبره مظلومية «سنية»، وتشكّك في أي نقد لهما، على رغم كل سيرتهما في تسعير الاحترابات داخل الجماعات المسلحة المحسوبة على الثورة السورية، بوهم أن هذه الجماعات تمثّل الإسلام، استناداً إلى اعتبارات العصبية الدينية والطائفية.
والحال، فربما اتّضح للبعض وبثمن باهظ وبفترة متأخّرة، أن الاستبداد الديني لا يختلف عن غيره، وأن التطرف ليس له حدّ، وأن كل جماعة تكفّر غيرها ستجد من هو أكثر تطرفاً منها ويكفّرها، وأن من يحرّم الحرية على غيره سيجد من يحرمه إياها، هذا يصحّ على جماعات الإسلام السياسي «الشيعي» و «السني»، كما على التيارات العلمانية الإقصائية.
على ذلك، ربما بات يصحّ الاستنتاج، بناء على اختبارات الثورات العربية، بأن التيارات الإسلامية المتطرفة والتكفيرية والمسلّحة، هي التي وضعت تيارات الإسلام السياسي في مواجهة مأزقها، إزاء أفكارها ومجتمعاتها، أكثر بكثير مما فعلت التيارات العلمانية والقومية واليسارية. وأن هذه المواجهة ربما تمثل الضرورة التاريخية لتوليد تيار إسلامي جديد، يقطع مع خطابات التيارات الإسلامية التي عرفناها، طوال القرن الماضي، والتي مهّدت، في شكل أو في آخر، لتوليد الجماعات المتطرفة التكفيرية، والتي عجزت عن مواجهتها لاستنادها إلى المنظومة الفكرية ذاتها التي ما زالت تتشبّث بها.
ويبقى أن تتعمّق إدراكات التيارات الإسلامية المعتدلة لمغزى كل هذه التطورات والاختبارات، وأن تسعى الى تمييز نفسها، ومراجعة أفكارها التأسيسية، في سياق سعيها الى نزع الشرعية الدينية عن الجماعات المتطرفة، وتفنيد الأفكار التي تستند إليها، بدل الاكتفاء بنقد رقيق لبعض ممارساتها وأفكارها، وهو ما حاولته قيادات حزب «النهضة» في تونس مثلاً.
بمعنى آخر، يفترض بهذه التجربة، الباهظة الثمن، أن تحسم توجّهات التيارات الإسلامية المعتدلة والحية للتصالح مع السياسة والواقع والعالم، ومراجعة فكرتها عن صبغ الصراعات السياسية الدنيوية بطابع ديني أو طائفي، ووضع الدين بمكانته المقدسة بعيداً من استغلال البشر ونزواتهم ومصالحهم الخاصة، وتالياً الاحتكام إلى موقف يتأسّس على اعتبار قضايا الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة بمثابة المعيار في الصراعات على السياسة والسلطة، وبديهي أن هذا الأمر يشمل كل التيارات، دينية وعلمانية وقومية وليبرالية ويسارية.
* كاتب فلسطيني
|