التاريخ: نيسان ١٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
«الانتصار» في تكريت فشل في أن يكون نموذجاً - حازم الامين
تصل إلى صحف عربية وغربية في هذه الفترة لوائح يرسلها عراقيون من أبناء المحافظات الشمالية والغربية عن أقارب لهم اختفوا أثناء معركة تكريت، وفي معارك موازية لها. يجري ذلك بالتوازي مع صور الكارثة التي حلت بالمدينة، ومع أخبار عن عمليات سلب هائلة جرت عقب انتصار «الحشد الشعبي» على «داعش» في عاصمة محافظة صلاح الدين.

الانتصار على «داعش» تحقق في المدينة، لكن التجربة فشلت. النتائج جاءت كارثية، ولولا ما ارتكبه «داعش» بحق السكان خلال فترة حكمه لهم لكان دخول ميليشيا «الحشد الشعبي» احتلالاً موازياً في عرف أبناء المحافظة.

نعم، التجربة فشلت على رغم الانتصار. الأثمان هائلة ومؤسسة لضغائن أهلية جديدة. ويُمكن لنسخة معدلة عن «داعش» أن تؤسس على هذه الأخطاء مشروع إمارة جديدة.

قال لي صديق عراقي أن «التسليب» الذي شهدته المدينة بعد سقوطها، ليس جديداً على العراق وهو جزء من ثقافة الحروب بين العشائر. ذاك أن المقاتلين في هذه الحروب يستمدون عزيمتهم من قيم الغزوات، وأن ذلك هو ما جرى لتكريت. قال أيضاً وهو العارف بأحوال العراق أن إيران ما زالت تعرقل تمويل «الحشد الشعبي» السني وتسليحه وتُصر على دور لميليشيا شيعية قريبة منها في هذه «الغزوات».

الانتصار في تكريت فشل في أن يكون نموذجاً، والمعركة هناك كان من المفترض أن تكون انطلاقة الحملة لاستعادة المدن العراقية من «داعش». علماً أن تكريت ليست أكثر المدن التي احتلها التنظيم حصانة، والفشل فيها يؤسس لفشل في المعركة المقبلة. مُدن الأنبار مثلاً، تلك التي باشرت الحكومة العراقية محاولات استعادتها، ستشكل التجربة التكريتية فيها نموذجاً يُصعِّب الانتصار، أما الموصل، عاصمة الخلافة وأكبر مُدن الخليفة، فسيكون «الانتصار» فيها كارثة مضاعفة.

علينا أن لا ننسى أن الانتصار على «داعش» في عاصمة صلاح الدين ما كان يمكن أن يتحقق لولا غارات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية ضد التنظيم الإرهابي. بقيت الميليشيات على أبواب تكريت شهرين من دون تقدم، وفي هذه الأثناء ارتكبت انتهاكات مذهبية كبيرة وأقيمت مجالس ومسيرات حسينية في محيط المدينة في عملية تصعيد وتوظيف للطقس المذهبي جعل من السكان هناك فريسة فعلية لمنتقمين قادمين من البادية الشيعية.

اليوم أعلن الأميركيون أنهم لن يشكلوا غطاء جوياً لميليشيات طائفية، وأن الدرس في تكريت كان بالغاً لجهة ما شكلته التجربة هناك من احتمالات. وعلى أثر ذلك باشرت الحكومة العراقية اتصالاتها لتأسيس «حشد شعبي» سني. هذا الأمر يدفع إلى استنتاجين، الأول أن المعركة مع «داعش» طويلة وستنتظر بلورة قوة سنية تتولى مؤازرة الجيش وتحظى بموافقة أميركية، والثاني هو العودة إلى القناعة الأولى بأن «داعش» لن يُهزم إلا على يد قوة سنية.

المعركة مع «داعش» طويلة وتنتظر تبلور «حشد» سني: معادلة لها ما يوازيها في الأداء السياسي. فالسنة لن يكونوا جديين في هذه الحرب إلا إذا ترافق انخراطهم فيها مع أثمان سياسية. هذه الأثمان هي نفسها التي لا تريد إيران من الحكومة العراقية أن تدفعها. «الحشد الشعبي» السني سيكون نواة الحرس الوطني للفيدرالية السنية. هذا ما تتخوف منه طهران، وهو بدوره ما يبدو واقعياً، ذاك أن السنة بممثليهم ووجوههم أعلنوا رغبتهم بفيدرالية يكون لها جيشها المحلي. وهم وإن كانوا ضحايا «داعش» قبل غيرهم، فإنهم أيضاً كانوا ضحايا حكومة نوري المالكي المركزية، وها هم اليوم ضحايا «الحشد الشعبي» الزاحف إلى مدنهم من بغداد ومن الجنوب. ولهذا يبدو الثمن الذي يطلبونه واقعياً، وستجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها مضطرة إلى الوقوف معهم في ذلك.

هذه هي مقدمات حقيقة أن العراق لن يكون هو نفسه بعد الانتصار على «داعش»، ذاك أن التنظيم الإرهابي لم يسقط على العراق من خارجه. فهو كان علامة فشل تجربة العراق بعد سقوط التمثال في 2003. فشل الشيعة في قيادته وفشل السنة في استيعاب التحول الهائل الذي أحدثه سقوط صدام. والفشلان الشيعي والسني حصلا في ظل تجربة ابتعاد ناجحة عن الدولة المركزية، أي التجربة الكردية، ومن الطبيعي والحال هذه أن يشكل النجاح النسبي نموذجاً يجذب إليه.

الأرجح أن الانتصار على «داعش» في تكريت دفع بهذه الوجهة إلى الأمام. يمكن للمرء أن يرصد ردود الفعل السنية العراقية على انتهاكات «الحشد» في تكريت، فهذه الردود حرصت على القول أن الدرس يجب أن يكون في تحويل الجهد لبناء «حشد» سني، واقتصر توظيف الاتهامات على إدانة مشاركة الفصائل المذهبية في هذه الحرب، لكنها لم تذهب إلى الدعوة إلى وقفها.

رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي بدوره تلقف هذه المعطيات لتمرير تجاوب حذر لا يُغضب طهران لكنه لا ينسجم مع تحفظاتها على تسليح العشائر السنية. واستجابة العبادي غير النهائية، هي مؤشر إلى بداية تقبل شيعي (عراقي) لرغبات السنة في أن يبتعدوا بفيدرالية عن المركز.

والحال أن السنة في العراق كانوا في بداية التجربة الفيدرالية من أكثر خصومها، في حين أبدت قوى سياسية شيعية رئيسية رغبة في فيدراليات في الجنوب والفرات الأوسط. اليوم تراجع الشيعة عن رغباتهم، بعد أن اكتشفوا أن أي فيدرالية تعني إضعافاً للحكومة المركزية الشيعية. وهم إذ تراجعوا عادوا وقدموا للسنة كل الأسباب لتبني الفيدرالية.

المعركة في تكريت عادت لتؤكد المؤكد. الانتصار هناك جاء ملوثاً بانتهاكات هائلة، وباشرت الحكومة العراقية بعده البحث عن شركاء سنة في حروبها المقبلة على «داعش». ومثلما سأل الأتراك الأميركيين عن الثمن السياسي الذي سيتقاضونه جراء انخراطهم في التحالف الدولي على «داعش»، أي نظام بشار الأسد، فإن السنة في العراق لن يذهبوا في المعركة على «داعش» إلى آخرها من دون ثمن سياسي. وما جرى في تكريت كرس اقتناعهم بأن من يحميهم في هذا العراق هو حرس وطني من أبناء محافظاتهم، في نظام فيدرالي يبتعد بهم قليلاً عن عراق ما بعد السقوط.