كاد المتفحص في أحوال الأمة العربية، ليس فقط من خلال قراءة الحاضر، بل عبر التعمق في دراسة الماضي، أن يدرك بسهولة أن الأسئلة نفسها التي كانت تُطرح من جانب الساسة والقادة والمثقفين والعلماء والصحافيين والكتاب في العديد من البلدان العربية الرئيسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي نفسها تلك التي تثار اليوم، وإن اختلفت أحياناً الصيغ، وتعددت الأساليب، وتنوعت الصياغات. ويرتبط بذلك من الناحية الفعلية أن نضال الشعوب العربية، وإن تفاوتت بعض الأولويات ما بين شعب وآخر ومن حقبة تاريخية إلى أخرى، تمحور في حقيقة الأمر حول الكثير من القيم، برغم أن فهم هذه القيم قد يختلف من تيار فكري إلى آخر ومن مرحلة زمنية إلى أخرى، بما يترتب على ذلك من تفاوت في الوزن والثقل الممنوحين لكل قيمة أو لتعريف مضمون كل منها.
فما بين إرهاصات دعوات الإصلاح الديني، بصورها وأشكالها وتجلياتها المختلفة، في العديد من البلدان العربية والإسلامية منذ نهايات القرن السادس عشر وعلى مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومروراً بدعوات الإحياء والتجديد الديني والانبعاث الوطني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما تلى ذلك من تنوع التيارات الفكرية، ومن ثم الاجتماعية والسياسية، في الوطن العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، بسبب تعدد المصادر والمرجعيات والمؤثرات في هذه التيارات، ووصولاً إلى ثورات وانتفاضات «الربيع العربي» في بعض البلدان العربية، والإصلاحات التي تبنتها الحكومات في بلدان عربية أخرى على مدار السنوات الأربع الماضية، نكاد أن نوجز الكفاح الفكري والفعلي للشعوب العربية وطلائعها من المثقفين في عدد من القيم المفاهيمية الرئيسية وهي: الحرية بمدلولها الشامل والمشاركة بأبعادها كافة خصوصاً السياسية، والديموقراطية بوجوهها المتنوعة، والاستقلال الوطني، والكرامة الإنسانية للفرد والجماعية للوطن، وتحقيق التنمية والتقدم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنجاز العدالة على المستويات القانونية والمدنية والاجتماعية، وما يتصل بذلك من ضمان توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنين في حدود قدرتهم وبنوعية تناسب آدمية الإنسان، وكذلك ارتباطاً بمبدأ تكافؤ الفرص وسيادة القانون ومساواة المواطنين أمامه وإنفاذ هيبة الدولة، خصوصاً لنصرة الضعفاء والضحايا من جهة وردع المتجاوزين والمستقوين بسلطة أو جاه من جهة أخرى، مع ضرورة تحقيق التوازن بين ذلك كله وبين احترام حقوق المواطن وحرياته الأساسية.
وواقع الأمر أن أولوية هذه المنظومة من القيم، على المستوى الجماعي، قد تغيرت وفق طبيعة وتوجهات التيار الفكري أو السياسي الذي يتولى تبنيها في بلداننا العربية. فعلى سبيل المثال ولعقود طويلة كان المعيار الرئيسي للتقسيم التقليدي السائد بين اليمين واليسار بأطيافهما المختلفة، وفي إطاره العام في العالم العربي، هو أن قوى اليمين تمنح الأولوية لاعتبارات الحرية بأشكالها المختلفة ومستوياتها المتنوعة، وفي الأساس منها في الميدان الاقتصادي، ولكن أيضاً، وإن كان بدرجات متفاوتة، مع المطالبة بهذه الحرية في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، بينما، وفي المقابل، منحت قوى اليسار تقليدياً الأولوية لقيمة العدالة، أيضاً على الأصعدة كافة وفي كل المجالات، ولكن مع تركيز نسبي أكبر على العدالة الاقتصادية والاجتماعية واستحقاقاتها.
إلا أن هذا الواقع، وبخلاف ما يتمسك به البعض من رأي أو رؤية، لا يتصف بالجمود، بل كان ولا يزال في حالة ديناميكية، حيث انتهى الأمر بقطاعات ليبرالية تصنف تقليدياً ضمن صفوف اليمين العربي، ونتيجة لما مرت به من تجارب تاريخية عملية، إلى رفض أي تفريط بالحرية السياسية تحت أي مسمى وأياً كان المبرر، ولو بصفة موقتة، لحساب الحرية الاقتصادية من جهة، وإلى تطوير رؤية من جانب بعض هذه القطاعات تسعى، بشكل أو بآخر، إلى الجمع بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية في سياق نسيج فكري وسياسي واحد ومتناغم من جهة ثانية، وإلى التمسك بالحرية الثقافية والاجتماعية كركيزتين لا غنى عنهما لبناء ليبرالية عربية جديدة وجادة وحقيقية من جهة ثالثة. وعلى الجانب الآخر، فإن الكثير من قوى اليسار في البلدان العربية قد استوعبت بدورها من دروس التاريخ الحديث والمعاصر لبلدانها وللعالم من حولها حقيقة أن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على ما يتحقق من إنجازات في مجالها على المدى المنظور من دون وجود ديموقراطية سياسية قابلة للاستدامة، ومؤسسات لها كيانها وشخصيتها ومناعتها واستقلاليتها، وسيادة قانون، وأجواء حرية تعبير وتنظيم، ومن دون توافر ضمانات لممارسة الحقوق السياسية للمواطنين، بمن في ذلك، بل في المقدمة، الفئات المنتفعة بما تحقق من إنجازات ذات توجه تقدمي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
ولكن السنوات القليلة الماضية، خصوصاً مع اندلاع ثورات وانتفاضات «الربيع العربي» وما صاحبها وتزامن معها من تطورات في بلدان عربية أخرى، شهدت تطورات وتحولات نوعية في رؤية وتوصيف منظومة القيم التي ذكرناها، وذلك من جانب مختلف التيارات الفكرية والسياسية الفاعلة على الساحة العربية، خاصة مع تفرع هذه التيارات وتضاعف أعداد ممثليها من الناحيتين الفكرية والتنظيمية على امتداد الأرض العربية. ولم تقتصر هذه التحولات على الأطراف المكونة لليسار واليمين بمعناهما التقليدي، كما لم تمتد إلى التيارات ذات الأيديولوجيات القومية وتلك ذات المرجعيات الدينية فقط، بل غطت نطاقاً واسعاً من قوى لم توجد من قبل، أو ربما لم يدرك أحد من قبل وجودها، لها تركيبتها الخاصة بها عقائدياً وتنظيمياً واستراتيجياً، وتبتعد عن الأنماط التقليدية.
وبلغت درجة ارتباط التيارات الفكرية والسياسية في الوطن العربي بهذه المجموعة من القيم التي عرضنا لها، إلى درجة أننا رأينا أحزاباً سياسية تنتمي إلى تيارات فكرية وسياسية متباينة تسعى لاختيار أسمائها من هذه القيم أو بعضها، وهي ظاهرة ازدادت وضوحاً على مدار العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، ثم تضاعفت منذ انطلاق ظاهرة «الربيع العربي» في نهايات عام 2010 ومطلع عام 2011.
ومن المنطقي أن نطرح في ختام هذا المقال تساؤلين ونحاول الإجابة عنهما، من دون مصادرة حق أي طرف آخر في تقديم إجابات مختلفة. أما التساؤل الأول فيتعلق بما إذا كانت الشعوب العربية، أو حتى بعضها، قد حققت تقدماً في اتجاه تحقيق القيم التي ذكرناها خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ بدء ظاهرة «الربيع العربي». والإجابة عن هذا السؤال مركبة، فعلى المدى القصير الجزء الأول من الإجابة هو قطعاً بالنفي، أي أن هذا الهدف يقيناً لم يتحقق بعد، بل في الكثير من الحالات لم يتم التقدم في اتجاهه، أو حدث قدر من التقدم تلته انتكاسة، أو حدث تقدم محدود. إلا أن الجزء الثاني من الإجابة عن هذا السؤال هو أن أحداث تلك الأعوام القليلة تركت أثراً، قد لا يكون مرئياً بوضوح من قبل البعض ولكنه بالتأكيد موجود، ويتلخص في أنه على مستوى الوعي والإدراك، صارت هذه المجموعة من القيم حيوية ومن الضروري توافرها، وذلك على مستوى قطاعات أوسع كثيراً مما قبل من الشعوب العربية، ولم تعد نوعاً من الترف الفكري أو السفسطة الفلسفية المقتصرة على صفوف النخبة المثقفة، أو حتى جزء منها، فقط لا غير.
وإذا انتقلنا إلى التساؤل الثاني، وهو شديد الارتباط بالتساؤل الأول، نجد أنه معني بكيفية إحداث اختراق في اتجاه الوصول إلى مرحلة ترجمة هذه القيم إلى واقع معاش، مع الإقرار باختلاف الرؤية والتفسير لمضمون هذه القيم ما بين تيار فكري وسياسي وآخر. ولسنا هنا بصدد الحديث عن مسؤوليات الحكومات أو السلطات التنفيذية وحدها للقيام بها، بل إن التحدي، ومن ثم المهمة، أعقد وأعمق من ذلك بكثير. فالأمر مرتبط أساساً بإحداث ما يشبه الثورة الثقافية الشاملة التي تضرب في جذور الكثير من أوجه الثقافة الاجتماعية القائمة، بما في ذلك التفسيرات السائدة أو الغالبة للعديد من مكونات التراث، سواء كان تراثاً دينياً متراكماً من أفعال التاريخ وإسهامات البشر من جهة، أو كان مجمل الموروث الشعبي الاجتماعي من أعراف وتقاليد وعادات من جهة أخرى. وبالتالي، فكل الأطراف صاحبة المصلحة معنية بأن يكون لها دور للوصول إلى هذا الهدف، بما في ذلك الأسرة، باعتبارها الخلية الأولى في المجتمع، والمؤسسات التعليمية بمستوياتها كافة من رياض الأطفال إلى المدارس على درجاتها المتدرجة إلى الجامعات ومعاهد البحوث، إلى الأندية الاجتماعية والرياضية، إلى مراكز الخدمة الاجتماعية ومراكز النشاط الشبابي، إلى وسائل الإعلام من مسموعة ومرئية ومقروءة، إلى أدوات الثقافة والفنون من أدب ونقد وشعر وسينما ومسرح ودراما وفن تشكيلي وغير ذلك، إلى منظمات المجتمع المدني على تنوعها، وذلك بالطبع مع وإلى جانب سلطات الدولة الثلاث من تنفيذية وتشريعية وقضائية ومؤسساتها، وذلك في إطار جهد متكامل ومنظومة عمل شاملة ورؤية مستنيرة بعيدة المدى للبناء.
كم هي حتمية هذه المسؤولية، وكم هي تاريخية، وكم هي أيضاً عاجلة وضرورية!
* كاتب مصري |