تمثل المفاجآت وتيرة الوضع في البلدان العربية، فالتحولات في ظل حدة الزوايا والانحدارات تأخذنا معها في رحلة اكتشاف مليئة بالمصاعب. وضعنا أشبه بمن ركب أمواجاً وسط الحرب العالمية الثانية: حرب تلد أخرى، وانهيار في دولة يقود إلى أخرى، وجزء من الإقليم تتمدد نزاعاته إلى جزء آخر. لهذا فالمشهد العربي كما الخليجي مفتوح على الاحتمالات والسيناريوات. وفي الأسبوعين الأخيرين تحولت دول الخليج العربي بقيادة سعودية نحو الهجوم الإستراتيجي في اليمن. وهذا يعكس مواجهة السياسة الخليجية وعلى الأخص السعودية ووعيها لحجم التحديات المحيطة بها. فالمشهد اليمني كان قد سقط قبل ذلك بشهور في صراع أهلي وفي حركة تحالفات وضعت الحوثيين وحليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح في مقعد الاستحواذ على حساب الحكومة اليمنية الشرعية برئاسة عبد ربه منصور هادي. الحوثيون الزيديون طرف قديم جديد في اليمن يمثل نسبة مهمة من الشعب اليمني لا تقل عن ٣٠ في المئة من السكان، لكنهم ليسوا الطرف الوحيد في اليمن، لهذا ففي هجومهم الأخير للسيطرة على البلد، ربما أرادوا في جانب إنقاذ ما يعتبرونه دولة اليمن، لكنهم في الوقت نفسه حملوا إلى اليمن مشروعاً للاحتكار السياسي في ظل صراع أهلي بين المكونات اليمنية المختلفة، ولسوء حظ الحوثيين تحول التنسيق القائم بينهم وبين إيران من شأن يمني داخلي إلى عنصر استفزاز إقليمي دفع المملكة العربية السعودية باتجاه التدخل العسكري.
وللإنصاف لم تكن الحالة التي وصل إليها اليمن مسؤولية الحوثيين وحدهم، فالاتفاق الذي أدى إلى تنحي الرئيس السابق علي عبدالله صالح برعاية خليجية بعد ثورة اليمن عام ٢٠١١، سمح لصالح بالاحتفاظ بثروته الضخمة ونفوذه الكبير في اليمن، كما تمت حمايته من الملاحقة السياسية والقضائية. لقد استخدم الرئيس السابق كل هذا في ظل وجوده في صنعاء للعودة إلى الحكم بأي ثمن، وقد وجد آذاناً صاغية في أكثر من مجال عربي خاصة في ظل الصراع مع تركيا و»الإخوان المسلمين» الذي ساد الأجواء منذ ثورات الربيع العربي. وساهم في تشقق حصون المنطقة العربية أمام إيران ذلك الصراع المفتوح بين عدد من الدول العربية والتيار الإسلامي (الإخوان المسلمين) ذي الجذور الشعبية والتاريخية. لقد تعمق هذا الصراع منذ الدور الذي أخذ الجيش المصري يلعبه في الحياة السياسية بعد ٣ تموز (يوليو) ٢٠١٣ وانعكس ذلك على تماسك الوضع العربي، ما فتح المجال لمزيد من الانهيار والتشظي في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن وبنسبة اقل لكنها لا تقل أهمية في مصر.
لقد جاء القرار السعودي في جانب منه في ظل السعي إلى التعامل مع أخطاء المرحلة السابقة وإفرازاتها منذ ثورات الربيع العربي. لكن الحرب كما هي حال كل حرب: تبدأ بصورة ثم تنتهي بصورة أخرى، تبدأ وفق تصور للثمن ثم تنتهي بثمن أكبر منه. الأخطر في الحروب هو السقف الذي نضعه لها. وحتى الآن يتضح أن التدخل السعودي والموقف العربي ساهما في تنشيط القوى والفئات اليمنية المعارضة للحوثيين. لكن هذه الأوضاع ستدفع بالحوثيين إلى الاعتماد بصورة أكبر على إيران مما سيضيف للصراع أبعاداً جديدة يصعب التحكم بها.
لهذا فإن هدف الحرب يجب ألاّ يكون سحق الحوثيين وإنهاء دورهم، فهذا ينبئ بحرب طويلة وهو بالأساس غير ممكن من دون «سورنة» و»عرقنة» اليمن. إن محدودية الأهداف إذن مسألة ضرورية لنجاح الجهد الجديد. فالسقف السياسي لحملة «عاصفة الحزم» يجب أن لا يتعدى تعديل موازين القوى للسماح بمشاركة كل الأطراف في صفقة مشتركة تذكّر بدعوة السعودية للفرقاء اللبنانيين للتوصل إلى الاتفاق في الطائف، وهذا يعني الاعتراف بالحوثيين وبحقوقهم ودورهم، واستعادة الشرعية وبناء وضع عادل لكل الأطراف. هذه أهداف متناقضة، لكن عدم تحقيقها سوف يطيل الحرب ويحولها إلى حالة استنزاف تشبه ما يجري في سورية والعراق.
وعلينا أن ننتبه إلى أن الدعوات لهجوم بري تحمل في طياتها مخاطر، فالهجوم البري إن وقع يجب أن يبقى في إطار محدود (إنزالات وعمليات محدودة). فلا الولايات المتحدة نجحت في أفغانستان وفي العراق، كما أن الاتحاد السوفياتي فشل في أفغانستان قبل ذلك. القوة لا تنفع في معظم النزاعات، وهي إن كان لها من فائدة، ففي مجال لا يخرج عن إطار محدد هدفه الضغط لإجراء صفقة سياسية.
من جهة أخرى إن اتهام كل من يتحدث مع أو ضد الحرب (عاصفة الحزم) بتهم الخيانة والطائفية سوف يمنع المنطقة من نقاش مفتوح حول الوضع اليمني وآفاقه وطرق الخروج منه. في هذه الأجواء استعادة لأجواء الكره الطائفي في زمن الحرب العراقية الإيرانية (بين الشيعة والسنة) والتي كانت مقدمة لتدمير المنطقة وخلخلتها. لا أقلل من مسؤولية إيران في استخدام الورقة الطائفية والدينية، فهي استخدمتها على مر العقود بزخم، لكن يجب في الوقت نفسه عدم التورط في صراع طائفي/ديني يؤدي إلى انتهاك الحقوق وسقوط الأوطان.
إن الصراع في اليمن ليس صراعاً سنّياً شيعياً بالأساس، والحوثيون ليسوا تابعين بالمطلق لإيران حتى لو أخذوا منها المساعدات والتدريب. صراع اليمن بالأساس هو صراع قبائل وفئات بين شمال وجنوب وبين جبل وسهل وبين تهميش وحقوق، وبين ذاكرة قديمة وأخرى جديدة وبين نظام قديم يقوده علي عبدالله صالح وشعب يريد بداية جديدة ويعيش حالة تخبط. لهذا فوضع هذا الصراع في إطار سنّي شيعي يتجاوز جذوره السياسية والاجتماعية.
في ظل هذه الحرب الجديدة يجب أن يكون السؤال عن إعادة بناء اليمن حاضراً. فالتورط في حرب بلا مشروع لما سيقع بعد الحرب، مثل بناء الدولة واستعادة السلام، سيترك آثاراً سلبية على كل الأطراف، مما سيجعل هذه الحرب مقدمة لأخرى. هذا التفكير موجود من دون شك لدى القيادة السعودية، لكن الحروب كثيراً ما تنسينا المشروع الأساسي وتأخذنا نحو أزقتها التي يصعب الانتصار فيها. فاليمن مليء بالفقر(اكثر من٧٠ في المئة) بينما البطالة تتجاوز ٤٠ في المئة ونصف السكان البالغين فوق ١٥ سنة أميون، كما أن اليمن رقمه ١٥٠ من بين ١٧٧ دولة على جدول التنمية الإنسانية. هذه كلها عوامل تساعد على تغذية حرب طويلة وحالة تطرف إقليمي في ظل فشل الدولة وانهيارها.
من جهة أخرى مثّل اتفاق إيران مع الولايات المتحدة والدول الغربية انتصاراً للقوى المعتدلة في النظام الإيراني، وهذه بداية لإيران أكثر تطوراً وربما اعتدالاً، فإيران نجحت في قيادة مفاوضات طويلة ومتعرجة، ولا أذكر طرفاً عربياً نجح في عمل كهذا على مدى العقود الماضية منذ نجاحات عبد الناصر في قناة السويس والتأميم وقصته مع السد العالي. يسجل لإيران هذا النجاح في التعامل مع القوى الغربية. فالاتفاق قد يتحول إلى بداية جديدة تتضمن رفع العقوبات والانطلاق نحو المجال الاقتصادي السياسي. وهذا قد يجعل إيران أقل شغفاً بمد نفوذها العسكري والسياسي وأكثر حماسة لتوسيع تجارتها وتحسين صادراتها.
إن عنوان المرحلة يجب أن لا يكون إقصاء إيران، فإيران دولة محورية والحوار معها ضرورة، وهي استغلت الانهيار العربي وتمددت، فأصبحت تضيف بعداً جديداً على معادلة تهميش العرب وتقسيمهم وتراجعهم. لهذا فالصراع مع إيران مرتبط بسياساتها، بل ينتفي الصراع معها بانتفاء هذه السياسات. في جانب لا زلنا نحصد ثمن موقف دعمنا المفتوح للرئيس السابق صدام حسين في حرب الثماني سنوات ضد إيران، فقيم الشك على ضفتي الخليج تعززت منذ تلك الحرب.
لهذا تشكل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مساهمة من تركيا وبتنسيق مع المملكة العربية السعودية كما يبدو لعقلنة الصراع ووضع سقف موضوعي له يلبي التطلعات لإيقاف الحرب وإيجاد حلول قابلة للتطبيق. إن الصراع مع إيران هو على الحدود والسياسات والتدخل وحلّه يتطلب توازنات جديدة وصفقات وبناء قواعد جديدة للثقة ولأمن المنطقة جوهرها الاحترام المتبادل.
في الحالة العربية بوادر قوة وحركة. في الشرق الأوسط يبرز النموذجان التركي والإيراني كمشروع لدول قوية تملك مؤسسات فاعلة، لكن النموذج العربي يصارع مرة من خلال الثورات بعد عام ٢٠١١، ومرة بانقلاب عسكري ضمن رؤية تنتهي بصراع أهلي، ومرة بقرار للقيادة السعودية بإطفاء حريق ممتد، لهذا فالمشروع العربي معطل بينما يزداد الشارع العربي تطرفاً واحتقاناً. المشهد شديد التعقيد، والتعامل مع اليمن يتطلب تعاملاً نشطاً مع الملفات الأخرى في سورية والعراق وليبيا إضافة إلى الحروب المستترة وحروب العنف في مناطق تبدو هادئة. كلها حروب متصلة مرتبطة بمسرح ممتد عبر جبهات ومساحات. سيبقى مشروع الدولة في المساءلة والحقوق والمواطنة لب بناء المناعة العربية في المرحلة المقبلة. فالبديل عن الحقوق والمشاركة والحريات هو القمع الذي يؤدي إلى التطرف والعنف وثقافة الموت. إن الحرب تحمل بذور الدمار، والخاسرون فيها دائماً هم الأبرياء والشعوب. لهذا يجب أن تحدد الحرب الجديدة في اليمن في إطار لا تخرج عنه بينما تبقى أبواب الحوار مفتوحة من أجل استعادة التوازن المفقود.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
|