بعض المناطق الصغيرة تكون أكبر وأوسع في تفاصيلها من المدن الكبيرة. مخيم اليرموك مثال جيد. ذلك المخيم الفلسطيني هو صورة سورية الصغرى، هو اللجوء والفقر والعجز والحرية المستترة. هو صورة الحصار والجوع والصمود، مخيم الأمل والألم وخنق داعش ونظام الأسد للحنٍ من هناك.
إنه عصر مخيم اليرموك المُحاصر في شكل جزئي من قبل نظام الأسد والقوات الموالية له منذ أيـلول (سبتمبر) 2013 وفي شكل كامل منذ بداية 2014، وفي شكل خـانق من قبل قوات الأسد وقوات تحالف تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة» منذ بداية نيسان (أبريل) الجاري.
اليرموك يقاوم وحده على جبهتين، المقاتلون المتطوعون للدفاع عن المخيم إضافة الى مقاتلي كتيبة أكناف بيت المقدس محاصرون في عدد غير كبير من الأمتار يواجهون الموت وحدهم بعد أن خذلهم الجميع بمن فيهم كثيرون من السوريين.
هذا المخيم الصغير وهو أكبر مخيمات الفلسطينين في الخارج لا تتجاوز مساحته 2.5 كيلومتر مربع، وهو يقف وحيداً اليوم ليدافع عن روح الشتات الفلسطيني وحقهم في العودة إلى فلسطين بعد أن تخلى عنها الممانعون والمقاومون ومن ثقبوا آذاننا بقضيتهم المركزية ونسوا وجود مخيم اليرموك في زحمة أحداث الشرق الأوسط، أولئك الذين لم نسمع صوتهم خلال سنتين من حصار الجوع والعطش، ولم نسمع صوتهم اليوم في حصار سكاكين «داعش» وصواريخ الأسد.
يقف اليرموك مقاوماً الموت القادم من خلافة البغدادي منتظراً مؤازرة جيش الإسلام وجيش الأبابيل وكتائب شام الرسول لنصرتهم ضد عدوهم المشترك «داعش»، هؤلاء الجيوش لم يطلقوا سوى بياناتهم من دون رصاصهم إلى الآن، إلا من رحم ربي منهم. الجرحى يموتون وحيدين لأن الحصار خانق والعطشى يعطشون وحيدين لأن نظام الممانعة منع المياه عن المخيم منذ أكثر من مئتي يوم والجائعون لهم الله.
فلسطينيو الله يشعرون بالخذلان، هكذا يجيبون إن سألتهم عما يحسون به هذه الأيام. أما إن سألتهم ماذا تنتظرون من السوريين اليوم، فسيكون جوابهم «بسيطاً كالماء واضحاً كطلقة مسدس»: ما ننتظره اليوم هو أن يحس السوريون بنا لا أكثر.
مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين كان أول من احتضن السوريين الفارين من مناطقهم في درعا حين شنّ النظام هجومه على المدينة في بداية الثورة وكان متنفس المدينة الوحيد أثناء الحصار. مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كانت مقصد اللاجئين السوريين من أرياف حمص ودمشق وحماة حين هربوا من بطش مليشيات الأسد، إذ كان يقال حينها إن لا بيت للاجئ السوري سوى بيت اللاجئ الفلسطيني، وما زالت الشواهد كثيرة من هناك، ومن أراد الاستزادة فليزر تلك المخيمات ويرى بأم عينه.
مخيم الرمل الجنوبي في اللاذقية كان من أشد المؤازرين للثورة السورية مما أدى إلى أن يذيقهم النظام السوري أصناف جحيمه، فلم يكن قصف الزوارق الحربية من البحر المتوسط للمخيم إلا أحد فصولها.
مخيم اليرموك كان أحد مناطق النزوح الآمن في مدينة دمشق وكان متنفساً يطل على غوطة الشام فيصلها من هناك أدوية ومواد غذائية ويسعف جرحى تلك المناطق في المخيم الآمن فضلاً عن اختباء الناشطين السوريين هناك خوفاً من اعتقال قد يؤدي إلى موت في أحد أقبية الاستخبارات.
مخيم اليرموك اليوم يقف وحيداً مخذولاً. مخذولاً من نظام المقاومة والممانعة ومريديه وأنصاره، مخذولاً من الممانعين العرب ممن سكتوا عن الحصار المفروض من قبل الأسد وميليشيا الجبهة الشعبية – القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل، ويسكتون الآن عن سكاكين «داعش» القريبة، مخذولاً من الكتائب الإسلامية التي لم تؤازره بما يكفي في محنته الأخيرة، وهو كان متنفسهم في فترة ما، مخذولاً من الجيش الحر الذي تركه وحيداً في المعركة، مخذولاً من ناشطي المجتمع المدني السوري الذين لم يذكروا المخيم، وهو صورتهم التي كلما نظروا إليها تذكروا قضيتهم، مخذولاً من قيادات مختلف الفصائل الفلسطينية التي نسيت عاصمة الشتات الفلسطيني وتركته يموت وحيداً.
صحيح أن الوضع السوري عبثي ومعقد وصعب لدرجة الجنون إلا أنّ لليرموك حقاً علينا، إن لم يكن من أجل فلسطين، فمن أجل فلسطينيي سورية. إنّهم فلسطينيونا، إنّهم صوتنا وصورتنا.
إنّها دعوة لتتوجه صلوات السوريين وبنادقهم لحماية مخيم اليرموك... لحماية الروح الأخيرة لدمشق.
* صحافي سوري |