... والسؤال أثارته آراء ومطالبات بعض أطراف المعارضة السورية فور انطلاق «عاصفة الحزم» في اليمن، بأن يتشكل تحالف عسكري مماثل، يتصدى للنظام ولداعش وللدور الإيراني، ويمكّن السوريين من وقف دوامة العنف وتقرير مصيرهم.
وفي التفاصيل يضع أصحاب هذا الرأي الحكومة التركية في مركز المسؤولية لبناء هذا التحالف وقيادته تشبهاً بالدور السعودي، والغرض توجيه ضربات جوية تحطم قدرات النظام وتمهد لفرض منطقة حظر جوي يساعد جماعات المعارضة المسلحة على تعزيز سيطرتها وقلب توازنات القوى.
لكن في الوقائع، ثمة فوارق نوعية بين الحالتين اليمنية والسورية، وإذ وفرت للأولى فرصة تقدم دور عسكري رادع للتمدد الحوثي المدعوم إيرانياً، فإنها تعيق في الحالة الثانية إمكانية تبلور هذه الفرصة.
أولاً، يختلف موقع سورية في الحسابات الإستراتيجية الإيرانية عن الموقع اليمني، وإذ يرجح أن يستمر تعاطي طهران الهادئ، أو دون المستوى العسكري، مع مجريات «عاصفة الحزم» والتعويض بممارسة ضغوط سياسية لدفع مختلف الأطراف إلى طريق الحوار والتفاوض، فإنها لن تتخلى عن الحلقة السورية في سلسلة نفوذها المشرقي، ولو أكرهت على خوض حرب إقليمية من أجل ذلك، لأنها تدرك أن خسارتها هناك ستفضي إلى انهيار ما راكمته طيلة عقود، وهو تحذير تكرر على لسان غير مسؤول إيراني بأن سقوط دمشق يعني سقوط طهران!.
ثانياً، يبدو اليمن محاطاً بالدول العربية التي شكلت تحالف «عاصفة الحزم»، وتبدو الجماعات الحوثية شبه معزولة عن حليفها الإيراني، بينما يطوق تركيا حليفان للنظام السوري، هما روسيا وإيران، يضعفان قدرتها على المبادرة، ويجعلانها تتحسب وربما تخشى خوض مغامرة عسكرية يرجح أن تتسع وتكبدها خسائر مادية وبشرية كبيرة، قد لا تخففها عضويتها في حلف الشمال الأطلسي.
ثالثاً، إن الوزن المتنامي لتنظيم داعش في الصراع السوري وحضور تحالف دولي من أجل دحره، يضعف تلقائياً مطلب توجيه كل البنادق إلى صدر النظام، بدليل تبدل موقف بعض الدول الأوروبية وأميركا من دعوتها لإسقاطه! بينما لا تحظى القاعدة في اليمن بوزن مقلق وخطير، وقد تعرضت خلال سنوات لضربات طاولت أهم قادتها وكوادرها، والمعنى أن تبلور قوة عسكرية مناهضة لداعش في العراق وسورية سيمنع حكومة أنقرة من التفرد بأي دور عسكري ناجع، إلا عبر قوات مشتركة إن استدعت الغارات الجوية اجتياحاً برياً.
رابعاً، هناك نقطة إشكالية تثير خلافات حادة بين المعارضين، تتعلق بالشرعية السياسية للنظام السوري، والقصد أن الهدف المعلن لتحالف «عاصفة الحزم» هو إعادة الشرعية إلى اليمن ودحر المتمردين الذين كشفوا عن وجه انقلابي واستولوا بالقوة على مؤسسات الدولة بدعم إيراني مستتر وغير معلن، في حين سيتشكل التحالف سورياً ضد نظام كان يحظى، إلى ما قبل اندلاع الثورة، باعتراف سياسي، عربي ودولي، ولا يزال حتى اليوم، وعلى رغم ارتكاباته وتهتك شرعيته والحصار المفروض عليه، يعتبر جزءاً من المنظومة الأممية، ويلقى الدعم من دول كبرى كروسيا والصين، كما يحتفظ بقنوات تواصل غير رسمية مع دول غربية، بدليل الإشارات التي تتوالى من بعض العواصم الأوروبية عن رغبتها في إعادة العلاقات الديبلوماسية معه. ونضيف أن إيران موجودة علناً ومباشرة في الصراع السوري عبر قادة من حرسها الثوري، وعبر التشكيلات المسلحة المتعددة الموالية لها.
خامساً، ثمة عوامل تتعلق بالوضع التركي ذاته وحسابات الربح والخسارة وقدرته على قيادة تحالف يشابه «عاصفة الحزم»، منها أن سلطة أردوغان المنتخبة تخشى أن تنزلق إلى سلوك طائش يفقدها شعبيتها أمام خصوم يتحينون الفرصة للنيل منها، خصوصاً أن أحد عناصر استمرار قاعدتها الانتخابية هو سياسة «صفر مشاكل» التي نجحت في تحييد الداخل التركي وحمايته من التأثيرات الإقليمية، ومنها أن الضرر الناجم عن استمرار الصراع السوري ليس بذي أهمية كبيرة على الدولة التركية، مقارنة بما قد تتعرض له الدول الخليجية من أضرار عميقة نتيجة التطورات في اليمن. ومنها أيضاً أن دخول أنقرة حرباً في سورية سوف يسعّر الصراع المذهبي والعرقي ويفتح الباب أمام تنامي القلاقل والاضطرابات، ويزيد الأمر تعقيداً تخوف تركيا من رد فعل إسرائيلي في حال انفلاش الصراع السوري وتهديده أمنها. والأهم من كل ذلك، أن لدى تركيا فرصة كبيرة كي تخوض في الغمار السوري عبر وكلاء ليسوا ضعفاء ويمكنهم عند الضرورة، التأثير في توازنات القوى، ولنتذكر ما حصل في مدينة كسب عندما مكنت حكومة أنقرة المعارضة هناك، وما يحصل اليوم في مدينة إدلب من خلال الدعم العاجل الذي قدمته للجماعات المسلحة، هذا ناهيك عن تحكم تركيا بممرات الدعم اللوجستي للجماعات الجهادية في الشمال والشمال الشرقي من سورية بما فيهم تنظيم داعش وجبهة النصرة، والمعنى أنها معادلة رابحة في السياسة أن ينأى طرف ما بنفسه ويتجنب الدخول المباشر في صراع مفتوح طالما هناك وكلاء موثوقون وقادرون على تحقيق مراميه بأدنى تكلفة وبأقل المخاطر.
أخيراً، يبدو أن مخيلة بعض أطراف المعارضة السورية لا تزال محكومة بالأوهام عن أدوار يمكن أن يقوم بها الآخرون عوضاً عنها، وبدلاً من تقدير خصوصية الوضع السوري وتعقيداته، والانطلاق من أولوية العمل الميداني المثابر لتثقيل قوى التغيير المدني والسياسي، تلجأ إلى القياس على تجارب الآخرين والتشبه بهم. فبداية راهنت على دور مستقل للجيش ينصر الحراك الشعبي مثلما حصل في تونس ومصر، ثم على تدخل غربي مباشر كما حصل في ليبيا، ثم على فرض حل سياسي أممي كما التجربة اليمنية، تلاه الرهان على ضربات جوية تنال من داعش والنظام على حد سواء، واليوم يبدأ رهانها الجديد على قيام تحالف شبيه بتحالف «عاصفة الحزم»، وتظن أنه طريق الخلاص من هذه المحنة المريرة. |