التاريخ: نيسان ٥, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
إنّها الثورات الأخيرة للقرن الـ 20 لا الأولى في الـ 21 - سامر فرنجية
الشاشة مقسومة شطرين. من جهة، صور قديمة عن شعوب تتظاهر وتسقط أنظمة، ومن حولها أحاديث عن المجتمعات والشعوب والأفراد، وإيراداتهم ورغباتهم ومخاوفهم. في القسم الثاني، صور جديدة عن دول تحارب وطائرات تقصف وجيوش تتقدّم، وكلام عن مصالح حيوية وممرّات نفط ومفاوضات نووية. إنتهى ربيع «الشعوب» وبدأ ربيع «الدول»، وتحرّكت البوارج، ومعها المفردات التي تُنشَر لمحاصرة الحدث الجديد.

أتت «عاصفة الحزم» وليدة تطورات إقليمية، أعادت البحث إلى مستواه الدولي، بعدما كان محتكراً من قبل البعد الداخلي الممثّل بالثورات. فعلى خلفية الإنسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة، واستبداله بهيمنة الدولة الإيرانية، تحرّكت الدول الحليفة للولايات المتّحدة لصدّ هذا الامتداد وتعطيل المفاعيل العربية المحتملة للإتفاق النووي المرتقب. الصراع بات على هندسة النظام الإقليمي الجديد وتحديد حدود النفوذ المتصارعة والسيطرة على ممرات النفط و تثبيت توازن عسكري جديد. مفردات قديمة - جديدة عادت لتضع جانباً لغة الأحداث الماضية، وتعيد احتكار الخطاب العام.

يعود البعد الإقليمي إلى الواجهة بعد فترة كان الداخل، أي «المجتمعات»، قد سيطر فيها على النقاش. كانت الثورات العربية عنوان هذه السيطرة، ومدخل المجتمعات إلى الخطاب عن المنطقة، بعدما استبعدتها الأنظمة الإستبدادية وبرّرت الاستغناء عنها مفاهيمياً. لكن سرعان ما أخذ النقاش شكل ثنائية الشعوب في وجه الدول، ليتحوّل تدريجاً إلى خوف عام من غوغائية الرعاع الخارجة من أقاصي التاريخ وتهديدها للدول وحدودها. غير أنّه على رغم هذا الخوف، لم تخرج تحرّكات المجتمعات عن مبدأ الدول - الأمم وبقيت تتمحور حول ميادين عواصمها ومدنها الرئيسية، وتتركز حول دولها. الثورات، بهذا المعنى، كانت تأكيداً على نهائية الدول في المنطقة.

بدأت هذه النهائية بالاهتزاز من جراء تكاثر «مركّبات» الدول والمجتمعات، التي بدأت تطوف فوق المنطقة، عابرة حدودها النفيسة. فمن «الدولة» الإسلامية، إلى ميليشيا الدولة المحشودة شعبياً والنظام الذي بات جماعة، وصولاً إلى «الدولة في الدولة» وزعيمها المتلفز، تحوّلت الصورة من شعوب راكدة وميادينها الثابتة إلى جماعات مسلّحة ومتحرّكة، تتلاعب من حول الدول، تسقط حدودها أو تدعم طواغيتها، وتوجد تماهياً بين الجماعة والدولة.

وطرحت تلك المركّبات مسألة استمرار الدول على الشكل الذي نعرفه، مطلقة النقاش حول الخارطة الجديدة للشرق الأوسط ومنطقها الخفي والمركّب. انتهت الميادين، واستُبدِلت بالدولة الإسلامية وإعداماتها المصوّرة.

نجحت إيران - الدولة في استعمال مركّباتها العراقية والسورية واللبنانية لبسط سيطرتها على المنطقة، وجنرالها الخفي يدور من جبهة إلى جبهة، وزعيمها المقاوم من شاشة إلى شاشة. كانت إيران سبّاقة في قمع ربيعها، كما كانت سبّاقة في تطوير فن ابتكار واستعمال مركّباتها، و«حزب الله» نموذجها الأفضل. غير أنّ تلك المركّبات لم تعد تفي كمجرّد مركبّ، بل باتت تتحوّل إلى دولة وتفقد حصانتها الناتجة عن طابعها المركّب. فتحوّل «حزب الله» إلى الدولة في لبنان، بعدما كان دولة في الدولة، وإلى نظام في سورية، بعدما فشل هذا الأخير في التحوّل إلى مركّب ناجح. أمّا في العراق، فتحوّل المركّب إلى دولة، قبل العودة إلى مركّب يخوض معركة طاحنة للعودة إلى موقعه الدولتي. وفي اليمن، اضطر الحوثيون إلى التحوّل إلى مركّب قبل البدء بالطموح إلى التحوّل إلى دولة. في عالم إيران النووي، لم تعد تنفع المركّبات، بل باتت تطمح إلى مرتبة الدول.

في وجه هذا التحوّل، عادت الدول العربية من باب الجو والبحر. فاختفت مركّباتها أمام عاصفتها الحازمة، ليعود منطق الدولة وعملياتها العسكرية الشاملة، التي لا تخوضها جماعات، بل دول. وهي عمليات تنطلق من دول ولكنها لا تحدّدها الحدود القائمة: الطائرات المصرية في ليبيا، والأردنية في سورية والسعودية في اليمن.

إنّها حرب الدول ضد المركّبات، وضد الدولة التي نجحت في استغلال مركّباتها في آن. القمة العربية العادية السادسة والعشرون قد تكون سياسياً قمة العرب في وجه إيران، ولكّنها أيضاً قمة عودة الدول بعد خمس سنوات من التراجع. إنّها عودة النظام الإقليمي بعد اهتزازه على يد الثورات. إنتهى شعار «الإسلام دين ودولة»، ومن بعده شعار «الدولة الإسلامية»، وعادت الدول الإسلامية إلى الواجهة.

يشير تسلسل الأحداث هذا إلى صوابية مقولة أنّ الثورات تتجاور مفاهيمياً مع مفهومي الحرب الشاملة والحرب الأهلية. فعلى رغم الرومانسية التي سيطرت على الأيام الأولى للثورات، والتي لخّصت هذا الحدث إلى عمل «ديموقراطي» يعود من خلاله الشعب إلى ذاته، أتت الأحداث المتلاحقة لتؤكد طبيعة الثورات العنفية، وتداخلها وتشابكها مع الحروب بوصفها المثل الأوضح عن العنف، أكان أهلياً أو دولتياً. الثورات، أو على الأقلّ جانب منها، لم تعد حدثاً مؤسساً، بل مرحلة في تاريخ، تتلاحق فيه الثورات الشعبية والصراعات الأهلية والعنف المركّب والحروب الشاملة. بهذا المعنى، ربيع الشعوب كان فصلاً بين فصول أخرى، ولم يرق إلى مرتبة الفصل المؤسس إلا عند أيتام الثورات، أو بكلام أوضح، عند أيتام الثورات الديموقراطيين.

أمّا الإشارة الثانية التي تقدّمها الأحداث الأخيرة، فهي صعوبة، إنّ لم يكن استحالة، اللغة السياسية الراهنة في تأقلمها مع عالم المركّبات الذي بات حاضرنا. فبقيت الثورات، كتعبير سياسي عن المجتمعات، أسيرة منطق الدولة في تحرّكاتها ومطالبها وجمهورها، وهو منطق رفضته المركّبات العنفية والدول المحاربة، فعكس موجة الخوف التي أطلقتها الثورات على مستقبل دول المنطقة وحدودها. بقيت الثورات تتحرك على إيقاع الدولة وتتعاطى وكأنّها مشروع دولة جديدة. بهذا المعنى، قد لا تكون الثورات أول ثورات القرن الحادي والعشرين، بل الثورات الأخيرة في القرن العشرين. بين مركّبات عابرة للحدود وقوات عربية مشتركة، لم يبق في المجتمعات إلا أبناء القرن العشرين وميادينهم الفارغة.