التاريخ: آذار ٢٩, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
في العنف الأيديولوجي وغصب المجتمع - كرم الحلو
لعل إحدى أكبر آفات الفكر الأيديولوجي جنوحه إلى تبني فكرة التغيير بالقوة والعنف والانقلاب الثوري، منهجاً لفرض مقولات سياسية واجتماعية طوباوية أو مستحيلة على المجتمع لا تتلاءم معه البتة وترفضها توجهاته التاريخية، بناء على أن المجتمعات جاهلة أو غبية أو كافرة أو مستلبة معادية للتقدم والصلاح. فما إن تصطدم الأيديولوجيا، أياً تكن أهدافها، مع وقائع التاريخ ومساره، حتى تعلن ثورتها على المجتمع طارحة تقويمه وفقاً لأطروحاتها، كونها تحمل رسالة خلاصية انتدبت لأدائها على الضد من كل العوائق والتناقضات. وليس من العسير في هذا السياق تبيّن العصب الأيديولوجي الذي يصل بين الأيديولوجيات، سواء الماركسية أو القومية أو الإسلاموية، لجهة تبنيها القوة والعنف، فقد قال الماركسيون بالعنف وسيلة لإسقاط الواقع الطبقي وإقامة مجتمع المساواة الاقتصادية والاجتماعية، وقال القوميون بالعنف لإلغاء دول التجزئة القطرية وإقامة دولة الوحدة القومية العربية التي تحقق للإنسان العربي القوة والمنعة في وجه تحديات الاستعمار والصهيونية، وقال الإسلامويون بالعنف لإقامة الدولة الإسلامية وفقاً لتصوراتهم، للوقوف في وجه «الأعداء والكفار» ومن أجل تطبيق شريعة الله والإذعان لإرادته والتسليم بمشيئته. وفي كل الحالات كانت هناك نخبة أيديولوجية «هادية» أوكلت إليها قيادة المجتمع نحو «الخير والصلاح»، وكان هناك «مجتمع ضال» يجب إخضاعه بالقوة والعنف بهدف خلاصه وهدايته.

انطلاقاً من هذا المنحى الأيديولوجي رأى ماركس في بيانه الشيوعي أن «البروليتاريا» التي أوكل إليها التاريخ مهمة تحرير الإنسانية من الاستلاب الرأسمالي، ستعمد إلى مركزة جميع أدوات الإنتاج في أيدي البروليتاريا المنظمة في طبقة حاكمة، و «لا يتم ذلك طبعاً إلا بخرق حق التملك وعلاقات الإنتاج البورجوازية بالشدة والعنف كوسيلة لقلب أسلوب الإنتاج بأسره». والبروليتاريا بهدمها علاقات الإنتاج القديمة، إنما تهدم الطبقات والتناحر الطبقي وتؤسس على أنقاض المجتمع البورجوازي القديم مجتمعاً جديداً أساسه الحرية والتقدم لجميع أعضائه.

لكن هل قادت البروليتاريا المجتمع الإنساني إلى الحرية والتقدم والخلاص من القهر والاستلاب، وفق أطروحة ماركس، أم أنها قادته من استلاب إلى استلاب، ومن عبودية إلى عبودية؟ هل كان الدور الذي ادعته بناء على تفويض من المجتمع ووفقاً لخياره ليصب في مصلحته ويسهم في نمائه وسعادته أم أنه انتهى على ما استنتج انجلز قبيل رحيله عام 1895 أن كل نضالات الجماهير صادرتها في نهاية المطاف طبقة قامت تحت لافتة إنهاء صراع الطبقات، وكان أن آلت ثورتها على عكس ما أمل ماركس إلى خدمة أفراد نصبوا أنفسهم آلهة وأنبياء جدداً.

من المنحى إياه ووفق منطق خلاصي، وباعتبارهم أنفسهم نخبة هادية وحمَلة رسالة خالدة في انتشال الأمة من تفككها وتخلفها وعجزها، لقيادتها إلى الوحدة والحرية والتقدم، راهن القوميون على القوة والعنف لفرض أطروحاتهم القومية دونما التفات إلى إرادة الإنسان العربي وتطلعاته الحقيقية. فالقومية، وفق ساطع الحصري، هي أولاً وقبل كل شيء، وحتى فوق الحرية. إذ إن الحرية ما هي إلا وسيلة إلى حياة أرقى، والمصالح القومية قد تضطر الإنسان للتضحية بحريته بل بحياته في سبيل أمته.

من هذا المنظور بالذات ذهب نديم البيطار إلى أن مقياس نجاح التجربة الثورية ليس تحقيق المثل، بل إلغاء النظام القديم وتجاوزه، فإن كانت قادرة على هذا، وجب اعتبارها ناجحة وفعالة رغم كل ما قد يترتب عليها من عنف جماعي ومن قمع للحريات والحقوق... وطالما أن النضال العربي الوحدوي يرمي إلى إقامة دولة الوحدة، فإن هذا النضال يحتاج إلى ديكتاتورية وحدوية ثورية... وعندئذ يجب أن يمارس العنف الثوري دون رحمة أو شفقة، دون تردد أو مهادنة ضد الاتجاهات التي تقول بالنقد الديموقراطي الشائع الذي قوامه حرية الفكر والتنظيم والتعبير عن الرأي المستقل.

لكن هل اتجه العرب بهكذا تصورات وأطروحات إلى الوحدة العربية أم إلى التذرّر عصبويات وإثنيات وقبائل وعشائر وحروب أهلية متناسلة تهدد الحاضر والمستقبل العربيين على السواء؟ هل قاد «العنف القومي الوحدوي» الإنسان العربي إلى الحرية والوحدة القومية أم إلى جعل العالم العربي مراتع آمنة للاستبداد والنزاع الأهلي؟

على هذا المنوال كذلك وبمنطق مشابه على رغم التناقض الأيديولوجي العميق انبرى الإسلامويون إلى تبني خيار العنف الأعمى في التبشير بأطروحاتهم الإسلاموية، فقد ذهب سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق» إلى أن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية وإلى أن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول، فإما إسلام وإما جاهلية. وعليه وفق أحد منظري الحركات الإسلامية، إن المهمة التي يجب أن تضطلع بها هذه الحركات هي إخضاع المجتمع الإنساني لحاكمية الله وعبوديته، وعندئذ يعتبر الجهاد ضد أنظمة «الكفر والاستبداد الوسيلة الناجعة لبلوغ هذا الهدف، فالإسلام، على حد تعبير حسن البنا، مصحف وسيف. ومن هنا أباحت الحركات الإسلامية كل وسائل العنف للوصول إلى السلطة لتخليص المجتمع وهدايته إلى «الصراط المستقيم».

ولقد رأينا ونرى النتائج الكارثية للعنف الإسلاموي الذي لم يكن إلا ليرد المجتمعات الإسلامية إلى ما هو أدهى من الجاهلية التي ادعى إنقاذ هذه المجتمعات من شرورها.

في الخلاصة الأساسية لأطروحة العنف الأيديولوجي، نرى أن القوة والعنف لا يؤسسان لمجتمع موحد وقوي وقادر على مواجهة إشكالات التنمية والتقدم، خصوصاً إذا جاءا باسم نخبة لم تستشر المجتمع ولم ترصد تطلعاته وتوجهاته الحقيقية. إذ ذاك يحق القول إن غصب المجتمع لا يؤسس شرعية، الأمر الذي لم تدركه ولا تريد أن تدركه الدول التسلطية العربية التي لم تتوان عن مراكمة كل عوامل القوة والقهر، فيما هي اليوم تعاند يائسة محنة انهيارها.

إن الاشتراكية أو الوحدة أو التـــقدم، أمور ينجزها المجتمع ذاته، وليست أية نخبة بالنيابة عنه، أياً تكن هذه النخبة، وأياً تكن القوى التي تتسلح بها في غصبه وفرض إرادتها عليه.