التاريخ: كانون الأول ١٤, ٢٠١٠
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
الديموقراطية العربية: سلعة لا تزال قليلة العرض

"الإيكونوميست"
ترجمة نسرين ناضر

 

كان الخريف موسماً حافلاً للديموقراطية العربية – أو على الأقل شبه الديموقراطية العربية. أجرت البحرين ومصر والأردن انتخابات عامة صاخبة، والشهر الفائت اقترب السياسيون العراقيون الذين انتُخِبوا في آذار الماضي، وأخيراً، من إنهاء المشاحنات حول كيفية تقاسم مغانمهم. لكن لا يبدو أن أياً من هذه الممارسات يبشّر بتغيير ديموقراطي عميق.


حتى إذا إضفنا الانتخابات التي أجريت في الأعوام القليلة الماضية في أماكن متنوِّعة مثل الجزائر والكويت ولبنان والمغرب وتونس واليمن، يبدو أن ممارسة الديموقراطية في مختلف أنحاء العالم العربي تولّد النتيجة نفسها إلى حد كبير: استمرارية حكم رجال أقوياء متجذّرين في مواقعهم، وإحباط القوى المعارضة لهؤلاء الحكّام وأحياناً جنوحها نحو الراديكالية، وانحطاط كلمة ديموقراطية إلى درجة أنّه غالباً ما لا يكون هناك فرق واضح فعلاً بين البلدان العربية التي تتباهى بممارستها وتلك التي لا تتظاهر حتى بممارستها مثل السعودية.


بعد عقدَين من نهاية الحرب الباردة وما حفّزته من موجة دمقرطة عالمية، وبعد حوالى عقد من محاولة جورج بوش تحريك موجته المتفائلة الخاصة، يبدو وكأن العرب لا يزالون محصَّنين بطريقة غير معتادة في وجه انتشار الديموقراطية. فمن أصل 22 بلداً في الجامعة العربية (ومن المتعارف عليه أن العديد منها ليس عربياً في الواقع)، تستطيع ثلاثة بلدان فقط أن تقول إنها ديموقراطيات حقيقية، مع العلم بأنها تعاني أيضاً من شوائب.


فالعراق، وعلى الرغم من حمامات الدماء المستمرّة، نأى بنفسه على ما يبدو عن حكم الحزب الواحد، لكنّه يفتقر إلى التوافق بين المذاهب، والمؤسّسات التي تعمل كما يجب. ويملك لبنان مجتمعاً منفتحاً وتعدّدياً، ولو كان مقسَّماً ويسوده الاستقطاب بين المذاهب وداخلها، ويخضع للسيطرة الإقطاعية للعائلات النافذة. وانتخب الفلسطينيون هيئة تشريعية في انتخابات حرّة عام 2006، بيد أن الفريق الفائز مُنِع من ممارسة السلطة في كامل الأراضي المنقسمة.
يملك كل بلد عربي الآن شكلاً من أشكال الهيئات التشريعية التمثيلية، ولو كانت صلاحيات معظمها ضئيلة، وكان بعضها يُعيَّن من الملك كما في السعودية.


تتيح بعض هذه الأوتوقراطيات تعدّدية أكبر من سواها. فعلى سبيل المثال، عمد المغرب إلى توسيع مساحة النقاش فيه. وتملك بلدان أخرى مثل الكويت برلماناً منتخَباً من الشعب مباشرة، لكن غالباً ما تتولّى العائلة الحاكمة التي تبقى صاحبة السيطرة الفعلية، إدارة شبه الشلل الذي يقع على مستوى السلطة التشريعية بعد الانتخابات. يسعى العديد من الممالك الخليجية الأصغر إلى منح شعبه تدريجاً قدرة أكبر على التعبير عن رأيه. لكن إذا خرجت الاندفاعة الديموقراطية عن طورها، يلجأ الملوك حكماً إلى كبح فرامل الديموقراطية خوفاً من أن يطيحهم شعبهم ذات يوم في حال منحه خياراً حقيقياً.


تتصرّف الدول العربية، سواء كانت ممالك أو جمهوريات، بالطريقة نفسها إلى حد كبير. يقول لاري دياموند، وهو أستاذ في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا وخبير في الدمقرطة، إن الجامعة العربية أصبحت فعلياً نادياً للأوتوقراطيين. حتى في البلدان التي فُرِضت فيها إصلاحات ديموقراطية، يبدو مسار هذه الإصلاحات دائرياً وليس خطّياً. قد تتيح البلدان المجال أمام مزيد من المعارضة وتتبنّى ممارسات مثل الانتخابات، إنما عادةً من أجل المظاهر الخادعة وترك الناس ينفّسون قليلاً عن غضبهم، ولا يلبث أن ينتهي هذا كله ما إن يشعر الحكّام الأوتوقراطيون بأنهم مهدَّدون.


وخير مثال على ذلك الانتخابات المصرية الأخيرة المشوبة بالعيوب والمخالفات والتي أدّت إلى زيادة الغالبية التي يملكها الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم في مجلس الشعب من 75 إلى 95 في المئة في جولة الاقتراع الأولى. علّق كاتب عمود في صحيفة "الأخبار" اللبنانية بعبارات لاذعة أنّ التقدّم الوحيد الذي شهدته العملية الانتخابية هو ارتفاع سعر صوت الناخب المصري من 20 جنيهاً مصرياً [3.50 دولارات] إلى بضع مئات الجنيهات.


لطالما كانت أسباب هذا العجز الديموقراطي موضع نقاش. يشير البعض إلى عامل الإسلام، وآخرون إلى الطبيعة القبلية والأبوية للمجتمعات العربية. والسبب الآخر الذي غالباً ما تتم الإشارة إليه هو اعتماد معظم الدول العربية على العائدات النفطية وليس على الضرائب التي يسدّدها المواطنون بكامل رضاهم.


يلقي البعض اللوم على تأثير التاريخ. فبلدان عربية كثيرة هي كيانات سياسية اصطناعية أنشأها إمبرياليون أوروبيون، وركّزت طاقاتها بالضرورة على بناء الدولة بدلاً من تشجيع المواطنين على المشاركة. ويشير آخرون إلى الجيوبوليتيك، فيعتبرون – من جملة أمور أخرى – أن الحكّام العرب يستعملون نزاعهم الذي لا ينتهي مع إسرائيل لتبرير القمع في الداخل. ويتمسّك سواهم بمقولة أن القوى الغربية، ولا سيما أميركا، تدعم الديكتاتوريات العربية من أجل ضمان استمرار تدفّق النفط.


تنطوي كل هذه الحجج على شيء من الواقع، لكن يجب التمعّن فيها جيداً. فقد أظهرت استطلاعات آراء كثيرة أن العرب يبدون أضنّاء بفكرة الديموقراطية. لكن السؤال هو، ما هو مفهوم الديموقراطية في منطقة لا تملك أمثلة كثيرة عنها؟ فقد سبق أن وصف الرئيس المصري، حسني مبارك، الجيش المصري بأنه مثال عن الديموقراطية، على أساس أن القائد العسكري يزن آراء ضبّاطه قبل اتخاذ قراره. بحسب هذا التعريف، قد يستحقّ حزبه الاسم الذي يُعرَف به.


أما الإسلام كأيديولوجيا فقد لا يكون عاملاً حقيقياً في هذا الإطار. فعلى الرغم من أن بعض مذاهب الإيمان، مثل السلفية، ترفض "حكم الإنسان" وتالياً الديموقراطية على اعتبار أنها لا تتلاءم مع "حكم الله"، هناك عدد لا بأس به من الدول العربية غير الإسلامية، مثل تركيا وأندونيسيا وماليزيا، التي تُعتبَر ديموقراطية إلى حد كبير. إلا أن الالتباس المستمر حول العلاقة المناسبة بين الدين والدولة يولّد خلافاً حول حجم المساحة التي يجب إتاحتها للنقاش.


يفضّل عرب كثر ذوو ميول ليبرالية، مثلاً، الحكم السلطوي في سرّهم على النوعية المجهولة لدولة إسلامية يُفترَض بأنها ديموقراطية، وهذه الدولة هي ما يتمنّاه 40 إلى 45 في المئة من الناس في أربعة بلدان عربية كما جاء في مقال أخير بقلم دياموند الذي يلفت إلى أن أميركا اللاتينية التي أصبحت ديموقراطية في الآونة الأخيرة واجهت أيضاً عراقيل بسبب المخاوف التي ساورت نخبة الأيديولوجيات الثورية اليسارية. على النقيض، يقول شادي حامد من مؤسسة بروكينغز التي تعنى بالدراسات والأبحاث في واشنطن، إن الإخوان المسلمين الذين هُزِموا في الانتخابات المصرية الزائفة، فشلوا في أن يكونوا عامل تغيير. فهو يعلّق أنهم واثقون جداً من أن الله والتاريخ إلى جانبهم إلى درجة أنهم أصبحوا قانعين بأنفسهم.


قياس التأثير المؤذي للنفط إلى جانب أشكال أخرى من الريع مثل المساعدات الخارجية، أسهل. فحتى الدول النفطية غير العربية مثل أنغولا أو روسيا أو فنزويلا تبدو هشّة أمام حكم الرجل القوي. وليس السبب فقط أن الإيرادات النفطية تحرّر الدول من الحاجة إلى المساومة مع مواطنيها. بل السبب أيضاً هو أن أي انتقال للسلطة يعني أن الحكّام يخسرون على الفور الغنيمة بكاملها، مما يجعلهم أكثر حرصاً على التمسّك بها. تصبح السياسة لعبة إما تربح فيها كل شيء أو تخسر كل شيء.


لكن قد يكون العامل الأكبر هو أن العادة هي التي تعزّز حتى الآن مهارة الأوتوقراطيين العرب في الاحتفاظ بمقاعدهم. فقد تعوّد معظم الناس على الحكم السلطوي الذي بات بالنسبة إليهم واقعاً من وقائع الحياة. اشتكى قروي في محافظة الفيوم المصرية في الانتخابات الأخيرة من العدد الكبير جداً من المرشحين الذين يتنافسون للانضمام إلى اللائحة الموالية للحكومة قائلاً "كانت الأمور أسهل بكثير قبل جيل عندما كنّا جميعاً نصوِّت للرجل نفسه".