التاريخ: آذار ٢٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
نحن الأوْلى بالخوف على أوطاننا - محمد الحدّاد
في 1935، يوم كان الاستعمار جاثماً على أغلب أوطاننا، أنهى المؤرخ البلجيكي هنري بيرين تحرير كتاب عنوانه «محمد وشارلمان»، دافع فيه عن أطروحة مفادها أنّ البحر الأبيض المتوسّط كان يمثّل عالماً واحداً وموحّداً إلى أن ظهر الإسلام، ثم منذ ذلك الحين انفصلت عراه وأصبح ساحة صراع بين عالمين منفصلين، العالم الإسلامي والعالم المسيحي. كانت هذه الأطروحة تحمل نتيجة مستبطنة هي أنّ انهيار الحضارة الأوروبية (القديمة) لم يحصل بسبب غزوات البرابرة الجرمان، كما كانت تقول كتب التاريخ، بل كان سببه ظهور الإسلام. ولقد استبق بيرين بذلك نظرية صدام الحضارات التي عرفت بعده بأكثر من نصف قرن.

لقد استهوت الأطروحة الكثيرين في تلك الظرفية التاريخية المتميزة بالصدامية، مرحلة ما بين الحربين الكونيتين وحركات الاستقلال الوطني، ثم بدا أنها قبرت نهائياً في الستينات، مع بداية نظام عالمي جديد تحوّل مركز الصراع فيه إلى قوتين غير متوسطيتين، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، كلاهما غير معني تاريخياً بالصراعات الدينية للعالم القديم. وبدأت تبرز صورة أخرى عن المتوسط باعتباره بحيرة سلام على مرّ العصور. ومع أنّ هذه الصورة لم تكن دقيقة تماماً من الناحية التاريخية، فإنها كانت تحمل دلالة راهنة وأملاً في أن لا يقع المتوسط رهينة في الحرب الباردة التي خاضها العملاقان في مناطق أخرى من العالم.

وفي 1949، كان المؤرخ الكبير فرناند بروديل قد نشر كتاباً ضخماً بثلاثة مجلدات في تاريخ المتوسط، سعى فيه إلى إثبات أنّ العالم المتوسطي لم ينفصل عن بعضه البعض ولو في أحلك مراحله التاريخية، وأنّ المبادلات التجارية مثلاً كانت مستمرّة في الفترة التي عدّها بيرين مرحلة قطيعة. وقد ساهمت شهرة بروديل، ومن ورائه «مدرسة التاريخ الجديد»، في نشر رؤية متفائلة لمستقبل المتوسط انطلاقاً من رؤية غير قاتمة لتاريخه، وانتقل هذا التفاؤل إلى مئات الكتب والبحوث التي صدرت منذ ذلك الحين في ضفتي المتوسط.

لكنّ هذا التفاؤل الذي فرض نفسه على مدى أكثر من نصف قرن، على رغم مركزية قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، تراجع اليوم لحساب سيناريو أصبح مطروحاً بالصوت العالي: ماذا لو تواصل تقدّم أقصى اليمين في الضفة الشمالية للمتوسط وتقدّم الأصولية الدينية في الضفة الجنوبية؟ ماذا لو رأينا بعد بضع سنوات عبدالحكيم بلحاج يحكم ليبيا ومارين لوبن تحكم فرنسا؟ ماذا لو عُمّم هذا السيناريو الكارثي في كلّ المنطقة؟

«إنني أخاف على وطني»، هكذا قال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس قبل بضعة أيام، في إشارة إلى هذا السيناريو. وكنت قد التقيت فالس قبل فترة وطرحت عليه السيناريو الذي أصفه في هذا المقال.

المعارضة الفرنسية تتهم فالس بالمبالغة لغايات انتخابية، وأنا متأكّد أنّ كلامه صادر عن قناعة حقيقية بأنّ هذا السيناريو لم يعد مستبعداً، لأنني سبق أن سمعت منه كلاماً في السياق نفسه. وإذا كان فالس يخاف على بلده، فإنّ خوفنا على بلداننا ينبغي أن يكون أكبر.

لقد ساهمت الثقافة السائدة عندنا في وأد كلّ محاولات الإصلاح، وترتّب على الدكتاتورية المقيتة هدم كلّ ما هو صالح في مجتمعاتنا، وأخيراً جاءت أميركا بسياستها الخرقاء لتزيد الطين بلّة، وآخرها دعم الإسلام السياسي ثم دعم إيران في العراق وسورية. هكذا اجتمع القديم والجديد ليؤجّج حرباً دينية غير معلنة ذات أضلع ثلاثة: سنة وشيعة، ومسيحية وإسلام، ويهودية وإسلام. كلّ المنطقة أصبحت تعيش على وقع هذه الحرب الدينية، بما فيها البلدان التي لا يوجد فيها شيعة ولا مسيحيون ولا يهود! المحدّد العام هو التوجس من الآخر، على ضفتي المتوسط، وفي كلّ ضفة منهما.

هكذا اختنق كلّ تفاؤل، لا سيما بعد أن خاب مشروع الديموقراطية الذي بشّرت به الثورات العربية في بداياتها، وقد كان قابلاً لأن يجمع بين الضفتين ويكون معبراً للسلام والحداثة واحترام حقوق الإنسان، ويمارس جاذبية على كلّ المنطقة.

لقد باتت العلاقة بين الضفتين مختزلة في موضوعين: مقاومة الإرهاب والحدّ من الهجرة غير الشرعية. لكن الوضع العام لا يفتأ يكثّف مخاطر الظاهرتين معاً. فغياب قيم الحداثة يدعم ثقافة الانغلاق التي تولّد الإرهاب، ولو لم تكن في مبدئها إرهابية. وغياب فرص العيش الكريم ينمّي ثقافة اليأس والإحباط ويدفع إلى المغامرات الأكثر جنوناً.

وفي خضم هذا الأفق الغائم الذي يهدّد الجميع، ما زال ثورجيّو الفنادق الفاخرة يتغنّون بثورة حتى النصر، بكل وقاحة وغباء، وعلى أشلاء آلاف الضحايا الأبرياء الذين لم ترحمهم النظم الحاكمة ولا المعارضات البائسة. وما زال إصلاحيّونا يجادلون في مسائل كانت مطروحة منذ القرن التاسع عشر، يجادلون ويدقّقون ويفحصون ويتأنّون، والطوفان يحيط من كلّ مكان. وما زال المحافظون يتمسكون بالحلول التقليدية التي لو كانت نافعة لما وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.

إذا كان رئيس وزراء فرنسا يخاف على وطنه، فكيف ينبغي أن تكون حالنا نحن؟ إننا نعود جميعاً إلى العالم الذي وصفه بيرين، عالم الصدام والعنف المعمّم. والخوف من هذا المصير القاتم لا يعدو أن يكون أضعف الإيمان.