التاريخ: آذار ٢٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
مثقفون بيض... شعوب ملوّنة - عمر قدور
قد لا تكون مفاجئة تلك الانعطافة التي يبديها بعض الإعلام العربي إزاء القضية السورية، عطفاً على تراجع المؤشرات الأميركية الأخيرة، إذ ليس جديداً تماماً التقاط ما يُعتقد أنه الاستراتيجية الأميركية والتحليل والاستنتاج بمقتضاها. ما ليس مفاجئاً أيضاً، هو النظر إلى التوجهات الأميركية كسياسة متحققة فعلاً، كأنه يكفي الإفصاح عنها حتى تتعين في الواقع. وإذا كانت هذه النظرة تجد ما يؤيدها في أوقات القوة الأميركية، فهي قد لا تصحّ في عصر الانكفاء. بعبارة أخرى، تتغير أميركا ولا نتغير نحن، ولا تتغير صورتها لدينا بوصفها القطب الكليّ السطوة.

الأخطر، والأكثر انحداراً على المستوى الأخلاقي، تبرّع مثقفين عرب وسوريين بالتبشير والترويج للانعطافة الأميركية المنتظرة في مسألة التفاوض مع النظام السوري، بعد القول بحتمية تنازل الإدارة في الملف السوري على طاولة المفاوضات النووية. المسألة هنا تتجاوز حدود فهم الوقائع إلى حدّ التمهيد لتكريسها، أي إلى حد التطبيع مع فكرة الإبقاء على رأس النظام السوري، بل حتى استباق النوايا الأميركية واعتبار مشاركة رأس النظام في الحل السياسي المرتقب الخيارَ الوحيد المتاح. هكذا، بعد أربع سنوات أباد خلالها النظام مئات الآلاف من السوريين، يصبح هو البديل الوحيد المتاح لهم لأن مسؤولاً أميركياً صرّح بضرورة التفاوض مع الأسد.

على رغم ذلك، وكي لا يُفهم الكلام أعلاه خطأً، المسألة لا تتعلق فقط بتصريح لمسؤول أميركي أو بتبعية عمياء للسياسات الأميركية. ثمة هنا على الأرجح استقواء بالمواقف الأميركية المستجدة، يلتقي فيه مثقفو الممانعة مع نظرائهم في ما يُفترض أنه مقلب آخر، ولا يستبعد أن يحتفي كلّ منهم على طريقته بالخلاص من الصداع المزعج الذي تسبب به السوريون. أبعد من هذا، لا يُستبعد احتفاء الطرفين بطي صفحة أربع سنوات من «الفوضى» في المنطقة، وليكن ذلك على قاعدة تقاسم النفوذ فيها، أياً يكن الخاسر والرابح طالما سيعيدها إلى «الاستقرار» السابق.

للوصول إلى هذا الاستنتاج، لا بأس بتعمية الدلالات. فالحديث عن إيقاف المقتلة يستوجب تجهيل الفاعل قدر المستطاع، وبحيث يكون إيقاف القتل على حساب أدنى متطلبات العدالة. المفاضلة التي لا يعلنها أصحابها جهاراً، وبعضهم يفعل، هي حتمية قبول شعوب المنطقة «وفي مقدمهم السوريون» بموقع الضحية الحية لأنه أفضل من موقع الضحية المقتولة.

سيكون من المستحسن دائماً توافر قضية عيانية يستند إليه مثقف الاستقرار، الذي لا يعني شيئاً في حالتنا سوى القبول بالأنظمة الحالية، وبالطبع ينبغي أن تظهر القضية خاسرة تماماً من منظور المصالح الدولية الفاعلة. فعلى ضوء الأخيرة، يتمركز مثقفـ»نا» كضليع بفحوى التوازنات العالمية، وعلى نحو أدق، كمثقف أبيض يرى ما لا يراه أصحاب الرؤيا القاصرة من الشعوب الملونة في المنطقة. من موقعه كخبير مزعوم في السياسات الدولية، يتمثل هذا النمط من المثقفين موقع أصحاب تلك السياسات، ويرى نفسه فوق أولئك المحليين القاصرين عن فهم العالم. ولأنهم قاصرون، من وجهة نظره، فهم لا يستحقون سوى المصير المحدَّد لهم من قوى أكثر خبرة وعقلانية، فضلاً عن عدم قدرتهم على تغيير ذاك المصير المرسوم لهم.

سيكون يسيراً جداً، بعد النظر إلى «المحليين» كقاصرين، القبول بالوصاية التامة عليهم من جانب أنظمة تستولي على مفاتيح السلطة كافة، وألا يُسمح بتأميم الأخيرة لصالح تمثيل اجتماعي غير معترف به أصلاً. إننا بالأحرى نقترب من مفهوم العبودية، لأن تكريس السطو المسلّح الشامل الذي قامت به الأنظمة طوال عقود، وإعادة إنتاجه مجدداً لا يعنيان سوى استرقاق الشعوب المعنية والنظر إليها بوصفها عرقاً أدنى. ولئن كان المثقف ذاته يشكو سابقاً خنوع الشعوب، فذلك نوع من التقريع الذي يشخّص ماهيتها، ولا يستوجب إطلاقاً أي تعاطف مع ثورة «العبيد»، ولا يستوجب تالياً تحليل نمط السلطة الاحتكاري الذي كلما تقدم في الزمن أوغل في الماضي، وصولاً إلى إعادة إنتاج الرقّ بمواصفات «حداثية».

وصف «مثقف السلطة» لا يفي هذه الترسيمة حقها، ولعل الحمولة الدلالية التي يقترحها ياسين الحاج صالح في بحثه عن التحول «السلطاني»، هي الأكثر غنى وتعبيراً. فقياساً على ذلك التحول، يمتاز المثقف «السلطاني» بعتبة من الفساد الأخلاقي لا يتيحها سوى التمركز التام للسلطة، وينظر إلى القوة بوصفها قيمة مطلقة، وعلى وجه التعيين بوصفها عِرقاً أعلى. في المثقف السلطاني، على شاكلة السلطان نفسه، تتمركز مجموعة من المواصفات التي تفترق به عن براغماتية مثقف السلطة أو حتى انتهازيته أحياناً، فهو متجرد عن الاعتبارات الإنسانية إلى حد احتقارها، وهو من حيث المبدأ عنصري متطرف بصرف النظر عن الأيديولوجيا التي ينسبها إلى نفسه. الاستعلاء متأصل فيه بقدر ما تُمتهن كرامة الضعفاء.

وإذا كان معلوماً أن السياسة غير منزّهة عن المصالح القذرة، فمثقف السلطان يندفع لمنحها التبرير الثقافي، بحيث لا تبقى قذارتها استثناء مقبولاً على مضض، وإنما ترتفع إلى مصاف الواقعية فحسب. كل ما هو قوي يصبح واقعياً في عالم لا مكان فيه لتطلعات الضعفاء، لأن الأخيرة تنتمي إلى فضاء من الرومانسية. هكذا يجري طرد أدنى إحساس بالعدالة من التداول، ليبدو أيضاً من تهويمات الحالمين الثوريين ليس إلا. المطلوب اليوم ليس القبول بتسويات مجحفة، فهذه لا تحتاج إلى تسوية الأرض ثقافياً أمامها، المطلوب بإلحاح أكبر هو الاعتذار عن «طيش» السنوات الأربع الأخيرة والإجهاز على الذين آمنوا به، مع ترك قفص التوبة موارباً للراغبين في العودة.

يحق لرأس النظام السوري أن يفخر اليوم بأنه لا يتحمل وحده وزر جرائم الإبادة، طالما وجد مثقفون يشرعنون نظرياً بقاءه، ويحق له أن يصرّ على الاستمرار في نهجه، طالما أتى بنتائج سياسية مجزية. في الواقع، لا يغيب هذا الاستنتاج عن مثقف السلطان، ولكي يبرر مشاركته في الجريمة يستبقها بتحويل خصومه إلى ما دون البشر، أو بوصمهم بالشر المطلق. هم إما رقيق أو «داعش»، وفي الحالتين التخلّص منهم لا يؤرّق باله. أما كيف أتيح للمثقف الأبيض الظهور من بين أكوام الملوّنين، فذلك سؤال ينبغي ألا يُطرح كي لا يعتقد الأخيرون بقدرتهم على النجاة مثله!