التاريخ: آذار ٢٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
«داعش» عزَّز جمع الصفوف الأميركية والإيرانية
للصفقة الأميركية – الإيرانية المنتظرة بُعدٌ فلسطيني وإسرائيلي ضمني سيجبر طهران على تغيير خطابها السياسي نحو كل من فلسطين وإسرائيل وسيعدّل في السياسة الإيرانية الإقليمية القائمة على التعويض –شفوياً على الأقل– عن التقصير العربي نحو المسألة الفلسطينية. وضوح عزم رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب مجدداً، بنيامين نتانياهو، على عدم السماح بقيام دولة فلسطينية، يضع فلسطين والدول العربية أمام مفترق مهم يضطرها إلى التفكير بالبديل عن «حل الدولتين» الذي ترفضه الأكثرية الإسرائيلية– كما بات جلياً الآن. إلا أن الأولوية العربية ليست فلسطينية في هذا الوقت، بل منذ بضع سنوات، فذلك الـ «داعش» بات محرك سياسات وتحالفات ملفتة، من بينها «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» ويضم دولاً خليجية مهمة، مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، ومن أبرزها تحالف الأمر الواقع بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، في الساحة العراقية وأبعد. تطوّر العلاقة الاستراتيجية بين السعودية والإمارات وبين مصر لم يكن «داعش» محركه وإنما «الإخوان المسلمون» في مصر ببعدهم التركي، والإيرانيون في الشرق الأوسط ببعدهم العربي. إسرائيل هي الساق الثالثة في موازين القوى المختلة، التركية– الإيرانية– العربية– الإسرائيلية، وهي اليوم تزيد من زج الدول العربية في الزاوية حيث حشرتهم إيران فيها، وكذلك تركيا.

القاسم المشترك بين القوى الثلاث هو فرض الدين على الدولة. الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي أنشأتها ثورة الخميني قبل 35 سنة أتت بفرض الدين على الدولة في الوقت الذي كانت المنطقة العربية تتوجه بعيداً من الدين لاستطلاع القومية الوطنية وغيرها. الحكم «الثيوقراطي» في طهران دام إلى الآن، وأوحى لكثيرين في المنطقة العربية المجاورة بالتحوّل إلى الدين وسيلة للوصول إلى السلطة، كما في إيران.

إسرائيل ازدادت تمسكاً بفرض الدين على الدولة بإصرارها على أن تكون «دولة يهودية» بالمعنى الثيوقراطي، تمهيداً «لتنقية» إسرائيل من الفلسطينيين لتكون دولة يهودية «صافية». الكل كان يعرف المغزى من وراء الإصرار على استصدار اعترافات بـ «الدولة اليهودية»، متظاهراً بأن ذلك مجرد تعريف ليهودية إسرائيل، وليس تمهيداً لدولة إسرائيل لليهود فقط. المهم أن الدين هو أساس الدولة اليهودية في إسرائيل، تماماً كما هو أساس الجمهورية الإسلامية في إيران.

الشبه بين الدولة اليهودية والجمهورية الإسلامية بدا واضحاً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وجد لنفسه وسيلة للمنافسة الدينية عبر «الإخوان المسلمين»، ليس فقط داخل تركيا وإنما في المنطقة العربية، وبالذات مصر. أردوغان عمل على الإطاحة الناعمة بالعلمانية التي ميّزت تركيا بعد أتاتورك، وسعى وراء الإقحام الخشن لـ «الإخوان المسلمين» في السلطة، بالذات في مصر.

ما أتت به الثورة الثانية في مصر هو الرفض الشعبي لمبدأ فرض الدين على الدولة. مصر ميّزت نفسها عن الثلاثي اليهودي– الشيعي– السنّي في إسرائيل وإيران وتركيا، بإصرارها على رفض حكم «الإخوان المسلمين» الذي قوامه فرض الدين على الدولة.

مصر اليوم تحتل موقع الأولوية لدى الأكثرية العربية، لأنها المؤهلة لإصلاح الخلل في التوازن الإقليمي ليكون فيه وزن عربي كي لا تبقى موازين القوى إيرانية إسرائيلية تركية حصراً. مؤتمر «مصر المستقبل» الذي عُقد الأسبوع الماضي وضم 120 دولة ومؤسسة إقليمية ودولية نتج عنه إقرار 130 بليون دولار لمشاريع اقتصادية إنمائية تضع مصر على عتبة التعافي الدائم وتمكنها من استعادة الثقة والوزن الإقليمي.

أولى الخطوات كانت بـ12 بليون دولار من السعودية والإمارات والكويت لتواجه مصر التهديدات الأميركية بمعاقبتها لأنها أسقطت حكم «الإخوان»، وهذه الخطوة الآن في ما يسمى بـ «مشروع مارشال» المصري– العربي، إنما هي أساسية في بناء الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية. كما أنها استثمار مهم في منع التسلط الديني على الدولة، إن عبر مشروع «الإخوان المسلمين» أو مشروع «داعش». وحسناً فعلت السعودية والإمارات والكويت وغيرها من الدول الداعمة لإحياء مصر كاستراتيجية ثابتة بعيدة المدى.

مصر لن تتورط ميدانياً في ليبيا مع أنها ستواجه «داعش» وأمثاله في هذا البلد الممزق بجوارها. قيادة مصر تدرك أنها تحت المجهر محلياً وإقليمياً، وهي تعي أهمية الاستثمار فيها سياسياً وليس فقط الاستثمار اقتصادياً في مصر.

فلسطين تشكل تحدياً مهماً لمصر في هذا المنعطف، سيما أن إسرائيل تريد لمصر أن ترث غزة، بل تريد الدفع بغزة في أحضان مصر لتصبح مشكلة مصر لا مشكلة إسرائيل. هذا في ما يتعلق بغزة، أما ما يتعلق بالموضوع الفلسطيني برمته، فإن التحدي لمصر هو التحدي الدول العربية كافة، وقوامه: ما العمل الآن بعدما أصبح واضحاً وجلياً أن إسرائيل لا تريد «حل الدولتين»، وأن لا مجال لقيام دولة فلسطين حتى على مجرد 20 في المئة من الأراضي الفلسطينية، وأن إسرائيل غير راغبة بـ «المبادرة العربية» التي أعربت عن الاستعداد للاعتراف بإسرائيل والتعايش معها مقابل إنهاء الاحتلال؟

خيار الحرب مستبعد جداً، كما يبدو من قراءة عاجلة للأولويات العربية، فلا أحد منها راغب في «تحرير» فلسطين. خيار المقاطعة يبدو وارداً أكثر بصيغ جديدة، على نسق ما يعرف بـBDS، إنما هذا يحتاج أيضاً قرارات حكومية عربية وغير عربية ترفع قليلاً سقف المقاطعات. ثم هناك خيار محاكمة الاحتلال الإسرائيلي والإجراءات الإسرائيلية في المحكمة الجنائية الدولية، وهذا يتطلب استثماراً خليجياً كبيراً في فلسطين لتمكينها من الصمود في وجه إجراءات عقابية أميركية وإسرائيلية ستشملها ما لم تتلقّ الدعم العربي.

الجديد أن الصفقة الأميركية– الإيرانية المتوقع لها أن تتعدى الاتفاق النووي ستؤدي بإيران إلى الكف عن المزايدة فلسطينياً لإحراج الدول العربية والخليجية بالذات، فطهران لها أولوياتها المختلفة الآن، وهي العلاقة الجيدة مع إدارة أوباما، وكذلك محاولة إرضاء الكونغرس الذي يحكم على أفعال إيران أيضاً عبر مواقفها من إسرائيل.

الرئيس باراك أوباما لن يقفز إلى التصدي لإسرائيل نتيجة ما هو -عملياً- إلغاء حل الدولتين، الذي يشكل أساس السياسة الأميركية والإجماع الدولي على السواء، بل إن المراقب للساحة الإعلامية الأميركية يجد أن هناك إلغاء لكلمة «الاحتلال» الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية واستبدالها بكلمة «تنازع» على الأراضي.

لم يعد النقاش جدياً حول ما إذا كانت إسرائيل ستختار أن تكون ديموقراطية أو تختار إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. الناخب الإسرائيلي اختار وعود نتانياهو بعدم السماح بقيام الدولة الفلسطينية، فالرأي العام الإسرائيلي بأكثريته يريد إسرائيل دولة يهودية محضة، ويعتبر أن لا حل للمعضلة الديموغرافية سوى بنقاء الدولة اليهودية. وفي الواقع، لطالما أكدت إسرائيل لسنوات وسنوات أنها تعتبر الأردن «الوطن البديل» للفلسطينيين وقد تصرّفت على هذا الأساس عملياً، على رغم كل الوعود.

الأردن اليوم يحتمي بالوعود الأميركية التي تجعل منه شريكاً ضرورياً في محاربة «داعش»، وهو يأمل أن تمنع الولايات المتحدة حليفها الإسرائيلي من إجراءات تصب في وعوده التاريخية. إنما الاعتماد على الولايات المتحدة بات مغامرة خطيرة والاطمئنان إلى وعودها بات مقامرة، فالرئيس أوباما لن يفعل أكثر من التعبير عن القلق، فهو منصب تماماً على صنع تاريخه عبر صفقة مع إيران.

هكذا -في رأيه- يمكن إلغاء «الشيطنة» في العلاقة الأميركية– الإيرانية، إذ كلاهما وصف الآخر بالشيطان الكبير، وهكذا -في رأيه أيضاً- يمكن الولايات المتحدة سحق «داعش» عبر التحالف الأميركي– الإيراني قبل أي تحالف آخر.

«داعش» عزَّز جمع الصفوف الأميركية والإيرانية لأنه العدو «الطبيعي» للاثنين بصفته تنظيماً بخلفية سنّية هي نفسها التي قامت بالإرهاب المستوطن الذهنَ الأميركي، وهو إرهاب 9/11. «داعش» تحوّل إلى هدية لإيران في مرحلة حاسمة من العلاقة الأميركية- الإيرانية نتيجة المفاوضات النووية والمباركات الأميركية لأدوار «الحرس الثوري» الإيراني في العراق وسورية.

ذلك الـ «داعش» بات أداة الإلهاء عن الصعود الإيراني في الأولويات الأميركية وعن الهبوط الفلسطيني والسوري في الأولويات العربية. ذلك الـ «داعش» بات الأولوية الأميركية الموازية للأولوية الإيرانية لدى ادارة أوباما.

الدول العربية، وفي مقدمها السعودية ومصر، يجب أن تعود إلى طاولة رسم السياسات لاستكشاف الخيارات بواقعية وبشفافية على ضوء صعود نجم إيران أميركياً، وانحسار المزايدة الإيرانية فلسطينياً، ووضوح الخيار الإسرائيلي ضد قيام الدولة الفلسطينية، وبقاء «داعش» أداة الهاء ووسيلة تفاهمات. تفاهمات على نسق ما دعا إليه وزير الخارجية الأميركي جون كيري عندما تكلم عن ضرورة التحدث مع الرئيس السوري بشار الأسد– الرجل نفسه الذي اغدق كيري عليه المديح والإطراء قبل 5 سنوات، ثم الكيل منه بوصفه سفاحاً قبل 3 سنوات، ويريد التفاهم معه الآن بمناسبة دخول المأساة السورية عامها الخامس.

ما حدث في مؤتمر «مصر المستقبل» مشجّع لأنه انطلق إلى جديد نوعي في مواجهة التحديات لهذا البلد المهم عربياً– بقرارات ومعونات خليجية ذات أبعاد والتزامات استراتيجية. مهم إعطاء مصر الأولوية في الاستثمار فيها استراتيجياً واقتصادياً، إنما من الضروري أيضاً توسيع هذا التفكير البنّاء إلى مواقع التحديات الكبرى الأخرى مثل فلسطين واليمن والعراق وسورية ولبنان.