التاريخ: آذار ٢٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
لماذا فشل الربيع العربي؟ - رضوان زيادة
بانضمام اليمن إلى ليبيا وسورية بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، يكون الربيع العربي قد انقلب خريفاً كاملاً. بعد خمس سنوات من بداية شرارة الربيع العربي، لماذا فشلت معظم دول الربيع كمصر وسورية وليبيا واليمن، في إنجاز عملية التحوّل السياسي باتجاه بناء نظام ديموقراطي وليبرالي يحقق تطلعات الشباب، الذين كانوا في طليعة التظاهرات المليونية الحاشدة التي ملأت شوارع العواصم العربية؟ لماذا فشل التحوّل الديموقراطي في هذه الدول على رغم نجاح عملية التحوّل في مناطق أخرى من العالم، كدول أوروبا الشرقية في تسعينات القرن الماضي، وأميركا اللاتينية في ثمانيناته؟

لماذا فشلت دول الربيع في التحوّل من أنظمة عسكرية أو تسلّطية الى أنظمة ديموقراطية، وبدلاً من ذلك تكاد هذه الدول جميعها تسقط إن لم تكن قد سقطت بالفعل، في براثن حرب أهلية من الصعب التكهّن بنهايتها أو النتائج التي ستؤول إليها؟ هل ستعاد هذه الدول إلى أفخاخ حكم عسكري كما في مصر، أم ستتحول إلى دول فاشلة تعمّها الفوضى وغياب كامل لمؤسسات الدولة (اليمن وسورية وليبيا)؟

في الحقيقة، هناك أسباب عدة تفسّر هذا الفشل، وتدلّ عليه، وهذه الأسباب لا تنبع أبداً من خصوصية المنطقة العربية وعدم تشابهها مع مناطق أخرى من العالم، وإنما تنبع من مقومات الدولة العربية الحديثة التي حكمت في تلك البلدان.

كان ستيفن ليفتسكي قد ميّز في كتابه الشهير «التسلطية التنافسية»، بين أنواع مختلفة من الأنظمة التسلّطية التي تحكم حول العالم، فهناك أنظمة تسلّطية لكنها تتيح حداً أدنى من التنافسية في الانتخابات ووسائل الإعلام والتعددية الحزبية. ربما يتم تزوير نتائج الانتخابات، أو يتعرض المعارضون السياسيون لاعتقال دائم ومستمر، لكن هناك درجة من الليبرالية في التعامل مع المعارضة وفي إدارة المشهد السياسي، وهناك أنظمة تسلّطية أطلق عليها لقب «مهيمنة»، أي أن نتائج الانتخابات إذا كانت تحصل فيها انتخابات، تكون معروفة مسبقاً، ولا وجود للتعددية الحزبية أو الإعلامية فيها. في النموذج الأول من الأنظمة التسلطية، التنافسية تكون احتمالية التحوّل باتجاه نظام ديموقراطي أعلى بكثير، في حين تكون احتمالية تحوّل هذا النوع من الأنظمة التسلّطية المهيمنة الى نظام ديموقراطي ضعيفة للغاية، وحتى لو حدث التحوّل فإنه قد يقود الى نموذج من اللااستقرار في النظام السياسي أو العودة باتجاه الحكم العسكري.

ربما تصحّ نظرية ليفتسكي هنا على الربيع العربي، فشكل الأنظمة التسلطية التي حكمت في كل من سورية وليبيا، يعدّ النموذج الأكثر انغلاقا وشمولية في المنطقة العربية وربما العالم كله باستثناء كوريا الشمالية. أما في اليمن ومصر، فكان شكل النظام في عهدي علي عبدالله صالح وحسني مبارك تسلطياً وتنافسياً بكل تأكيد مقارنة مع سورية وليبيا، لكنه في الوقت نفسه أخذ سمات عائلية وكان خيار التوريث وارداً لولا اندلاع الثورة، كما أنه امتدّ لعقود طويلة وبالتالي كان متجهاً باتجاه تحلل مؤسسات الدولة وأخذها طابعاً زبائنياً وعائلياً، وهو ما يفتح الباب بالتالي باتجاه إضعاف المؤسسات وتقوية الشبكات ذات المصالح الخاصة داخل الدولة وخارجها، التي تجعل وظيفتها تأمين استمرار النظام الحاكم بأي شكل من الأشكال ولو على حساب المصالح الوطنية العليا، التي غالباً ما تختفي أو بالأصح تصبح محلّ وجهات نظر متباينة حولها، وتسود وجهة نظر العائلة الحاكمة في تحديدها لمعنى المصالح القومية العليا.

وهكذا، اصطدمت الثورات العربية في شكل قوي بهياكل مستبدة تعود إلى الأنظمة السابقة، مع عدم رغبتها في التحول نحو دمقرطة المؤسسات وإدارة عملية التحوّل بذاتها، كما جرى في مناطق أخرى من العالم كأوروبا الشرقية. بالعكس، أدت هذه الهياكل دوراً تدميرياً ليس في عرقلة عملية التحوّل فحسب، وإنما عبر المساعدة في خلق منظمات عسكرية غير حكومية كما حدث مع «داعش» في سورية والعراق، و»حزب الله» في سورية ولبنان والعراق، والحوثيين في اليمن. كل هذه الهياكل العسكرية، تم تشكيلها بشكل مباشر أو غير مباشر على يد هياكل الأنظمة السياسية السابقة بهدف عرقلة عملية التحوّل والانتقال، ولذلك انتقلت كل هذه البلدان الى مرحلة من الفوضى العسكرية وليس السياسية فحسب، وهذا ما يفتح الباب واسعاً لدخول هذه البلدان الى الحرب الأهلية لتفتيت بناها الاجتماعية الضعيفة أصلاً، والمكوّنة من انتماءات قبلية وطائفية ما قبل دولتية.

العامل الأخير الذي أدى دوراً في فشل عملية التحوّل في دول الربيع العربي، هو الافتقاد الى مؤسسات إقليمية تقود أو على الأقل ترعى عملية التحوّل كما جرى مع الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية، فجامعة الدول العربية مؤسسة تقليدية لا تحكمها مؤسسات ديموقراطية أو قانونية، وهي أصلاً ليست معنيّة بدفع هذه الأمور فضلاً عن فرضها كوقائع سياسية على الأرض، وبالتالي تركت كل بلد من بلدان الربيع العربي يأخذ مساراً خاصاً وربما كانت تونس استثناء له مقوماته الخاصة التي ربما نتحدث عنها في ما بعد، بينما تبقى دول الربيع العربي الأخرى كسورية وليبيا واليمن ومصر، تمر بعملية التحوّل عبر التجريب بالنسبة الى نخبها السياسية المعارضة، وهذه العملية أكثر صعوبة في تردّد المجتمع الدولي في دعمها السياسي، حتى سمح لعملية التحوّل هذه أن تنزلق إلى صراع مسلّح وربما حرب أهلية، وللأسف تبدو الحقيقة المرة اليوم أن الحرب الأهلية هي الخلف الطبيعي لطبيعة الأنظمة التسلّطية التي حكمت بلداننا العربية لعقود طويلة من الزمن.



* كاتب سوري وأستاذ زائر في جامعة كولومبيا - نيويورك