التاريخ: آذار ١٩, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
العبور الثاني بعد أكتوبر 1973 - السيد يسين
لا نبالغ أدنى مبالغة لو أكدنا أن النجاح المبهر للمؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ والذي نظم بقيادة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي يمثل العبور الثاني لمصر بعد حرب أكتوبر 1973.
 
في هذه الحرب المجيدة استطاعت القوات المسلحة بمساندة جماهير الشعب المصري - التي رفضت الهزيمة التي وقعت عام 1967 - أن تدمر خط بارليف الحصين الذي أشاعت إسرائيل أنه لا يمكن تدميره ولو بقنبلة ذرية، وعبرت أخطر مانع مائي في التاريخ وهو قناة السويس، لكي تدمر القوات المسلحة الإسرائيلية وتفتح الطريق إلى النصر المؤزر.

وقد أكدنا في الندوة الدولية التي نظمتها القوات المسلحة المصرية بعد حرب أكتوبر 1973 والتي شاركت في وضع خطتها بالتعاون مع "إدارة الشئون المعنوية" وذلك في البحث الذي ألقيته فيها أننا –بعد الحرب- في حاجة إلى تطبيق نموذج أكتوبر في مجال التنمية والتي هي أشبه بمعركة ضد التخلف، واقترحت اقتباس النموذج المعرفي لحرب أكتوبر، والذي يتمثل أساسا في التخطيط الاستراتيجي المتقن وفي إعداد الوسائل المناسبة، وفي التدريب الشاق، وفي تبني روح الجسارة في اتخاذ قرارات مبنية على أساس التفكير العلمي، وذلك حتى تخوض مصر قيادة وشعبا حربها في مجال التنمية القومية المستدامة.

قد يبدو غريبا لأول وهلة إقامة تشابه بين حرب عسكرية وخطة تنموية لمواجهة التخلف، ولكن لو عرفنا أن ماكنمارا وزير دفاع الولايات المتحدة الأميركية الشهير سبق له في دراسة شهيرة أن عرّف الأمن القومي بأنه "التنمية" لزالت الغرابة عن تشبيهنا. لأن ماكنمارا أدرك بثاقب بصره أن الأمن القومي لا يتعلق كما يظن الكثيرون بالجوانب العسكرية فقط، ولكنه يرتبط أوثق ارتباط بتنمية المجتمع على أسس علمية حتى يكون مجتمعا حيا قادرا على النمو، وعلى الدفاع عن نفسه ضد مصادر التهديد الخارجية.

لماذا قلنا أن المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ هو العبور الثاني بعد حرب أكتوبر 1973؟

الإجابة أننا في الواقع بعد ثورة 25 يناير هُزمنا – كمجتمع - هزيمة منكرة حين استطاعت جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في سياق انتخابات ديموقراطية شكلية أن تكتسح الانتخابات البرلمانية، وأن تنجح - وفق إجراءات مشبوهة - في أن تولّي رئيس حزب "الحرية والعدالة" لكي يكون رئيسا للجمهورية.

تولّي الرئيس المعزول كان تعبيرا جهيرا عن هزيمة الثورة، وتأكد ذلك حين أسفر حكم الإخوان البغيض عن ديكتاتوريته الفجة بعد الإعلان الدستوري الشهير.

وكما فعل الشعب المصري بعد هزيمة حزيران 1967 في حشد قواه لشن حرب استنزاف أولا ضد القوات الإسرائيلية قبل الدخول في المعركة الفاصلة، فإن قوى المعارضة الحية دخلت في حرب استنزاف ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين توجت بالنصر في المعركة الفاصلة التي وقعت في 30 يونيو والتي تبعها على الفور إعلان السيسي خريطة الطريق.

والواقع أن النظام السياسي الجديد بقيادة الرئيس السيسي الذي انتخب ديموقراطيا بمعدلات قياسية طبق بنجاح مبهر النموذج المعرفي لحرب أكتوبر وذلك في مجال التنمية. فقد شرع السيسي– بعد أن كوّن المجالس الاستشارية لرئاسة الجمهورية والتي تضم عددا من أكبر القامات المصرية في البحث العلمي والاقتصاد والاجتماع والإدارة -في التخطيط الاستراتيجي المتقن لفتح عصر التنمية القومية الرشيدة في مصر، وبدأ أولا بمشروع قناة السويس الجديدة والتي كانت في التخطيط لها وتنفيذها نموذجا فريدا في تلاحم الشعب مع القيادة، بعد أن تدفقت الجماهير لتمويل المشروع، ثم ما لبث أن خطط بإتقان شديد لعقد المؤتمر الاقتصادي الذي اقترحه ملك السعودية الراحل عبد الله آل سعود.

ويمكن القول أن النجاح المبهر للمؤتمر يعكس تخطيطا عبقريا لأنه – بالإضافة إلى الملوك والرؤساء الذين حضروه - حضر المئات من مديري الشركات الكبرى في العالم وعشرات من رجال الأعمال البارزين.

وأنا أشير إلى النجاح المالي المبهر للمؤتمر على أساس المنح المالية الضخمة التي قدمتها كل من السعودية والإمارات والكويت وعمان إلى عشرات الاتفاقيات التي وقعتها كبرى الشركات العالمية ولكنني أهم من ذلك أشير إلى النجاح السياسي الخارق للمؤتمر.

لقد كان المؤتمر إعلانا عالميا واعترافا دوليا بشرعية 30 يونيو باعتبارها ثورة شعبية ضد ديكتاتورية الإخوان وليست انقلابا عسكريا كما زعمت بعض الأبواق العربية أو الدولية، ومن ناحية أخرى لو حللنا مضمون خطابات الملوك والرؤساء ووزراء الخارجية الأجانب لاكتشفنا اعترافهم بالقيمة المحورية لجمهورية مصر العربية وبمكانتها الرفيعة في محيطها العربي والأفريقي والآسيوي بل ومكانتها في العالم كله.

ليس ذلك فقط بل لم يتوانَ عديد من الخطباء عن الإشادة بالقيادة الحكيمة للرئيس عبد الفتاح السيسي اعترافا بدوره الإقليمي والعالمي في مكافحة الإرهاب من ناحية، وحرصه على التخطيط التنموي الشامل لرفع مستوى نوعية الحياة في مصر، والقضاء على الفساد والبطالة والفقر، ودفع البلاد إلى الإمام حتى يكون اقتصادها في مقدم الاقتصادات الواعدة.

لقد أخرس نجاح المؤتمر ألسنة أنصار جماعة الإخوان المسلمين الذين ما زالوا –ويا للأسف- في مجال إنكار الواقع والحلم المجنون بعودة مرسي وحكم الإخوان مرة أخرى.

ولكن لا ينبغي أن نلتفت لنقد مجموعة متنوعة من الكتاب والإعلاميين المتنطعين الذين زعموا أن نجاح المؤتمر وإقبال المستثمرين على مصر لا يعني بالضرورة عودة ذلك بالفوائد والمكاسب على المواطنين المصريين.

وإن دل ذلك النقد على شيء فإنما يدل على الجهل الفاضح بالاقتصاد، لأن الاستثمار الواسع المدى يعني في المقام الأول تشغيل العاطلين وإعطاء فرص غير محددة للشباب من خلال توسيع وتنويع سوق العمل.

بعبارة أخرى جهود التنمية المخططة حين تراعي اعتبارات العدالة الاجتماعية ستصب مما لا شك فيه في مجرى التقدم العام للمجتمع، وستكون هي الوسيلة المثلى للقضاء على الفقر والتخلف وتدني نوعية الحياة.

غير أن نجاح المؤتمر الاقتصادي ليس حلاّ سحريا لمشكلات الاقتصاد ولا لتدني الأوضاع الاجتماعية. ذلك أن الحاجة ماسة إلى ابتكار صيغة جديدة للعمل الاجتماعي لحشد الطاقات الجماهيرية من خلال رفع مستوى التعليم، والارتفاع بمستوى تدريب القوى البشرية، ومساندة كل المؤسسات لمشروع التنمية، وفي مقدمها مؤسسات المجتمع المدني التي يقع على كاهلها مسؤولية تاريخية في رفع الوعي الاجتماعي للملايين من ناحية، وفي التنوير الثقافي من ناحية أخرى.

بعبارة موجزة حانت اللحظة التاريخية للعمل الجاد، لأن القيادة مهما كانت مهاراتها أو نبل أهدافها أو رغبتها في تقدم الوطن لن تستطيع أن تنجز بغير مساندة شعبية كاملة.
 
باحث مصري