يبدو أن مقولة "الكتلة التاريخية" التي حاول أن ينزلها فقيد الفكر العربي، محمد عابد الجابري، في السياق العربي، بعد أن صاغها غرامشي، لا تزال تحول دونها عوائق كثيرة. وتعتبر الحالة التونسية دليلاً قوياً على ذلك. فالثورة التونسية لم تكن نتيجة التقاء جميع التيارات والقوى الاجتماعية والسياسية، بقدر ما كانت وليدة تقاطعات ومجموعة مصادفات تجمعت، لتنهي حكم رئيس مستبد، فقد القدرة على إدارة نظام الحكم. بعد ذلك، فشلت، تقريباً، تجارب التحالف من أجل إدارة شؤون الدولة والمجتمع بشكل توافقي، يرتفع عن الأيديولوجيات والمصالح الظرفية أو الحزبية. حاولت حركة النهضة، مع حليفيها في الترويكا، إنجاز هذه المهمة على نطاق ضيق. وعلى الرغم من الأهمية الرمزية للمحاولة، فإن إلقاء نظرة عابرة على ما آلت إليه هذه التجربة يدل على فشلها، وعدم تمكنها من الاستمرار، بعد أن أعلن أصحابها عن ندمهم لما قاموا به، على الرغم من دفاعهم عمّا يعتبرونه مكاسب تحققت. ما يحصل، هذه الأيام، داخل بيت الحزب الحاكم، نداء تونس، دليل آخر على صعوبة هذا الرهان التاريخي الضخم. لم يكن الباجي قايد السبسي، في البداية، ينوي تأسيس حزب. كانت رغبته، بإيحاء من مستشاره السياسي الحالي محسن مرزوق، أن يؤسس جبهة عريضة، على شاكلة ما تحقق على يد زعيم جنوب إفريقيا، نيلسون مانديلا، عندما نجح في إنشاء "المؤتمر الوطني الإفريقي"، وهو إطار أوسع بكثير من مفهوم الحزب. كانت الصيغة الأولى للسبسي، ومن معه، تجميع كل الأحزاب المناهضة لحركة النهضة، إلى جانب أبرز فعاليات المجتمع المدني، ضمن جبهة عريضةٍ تتجه نحو تعديل ميزان القوى، وإطاحة الترويكا. لكن، أدى الجدل الذي حصل إلى تغيير الصيغة، والعمل على صهر تيارات مختلفة ضمن حزب واحد. نجحت الفكرة في إيجاد جسم كبير. لكن، ما أن حقق حزب نداء تونس انتصاراً في الانتخابات التشريعية والرئاسية، أخيراً، حتى انفجرت التناقضات الداخلية بين الروافد الأربعة التي استند عليها، وتحول التنوع الذي كان سر قوته إلى مصدر تهديد له ولوحدته. مشروع مانديلا هو ما يحاول الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، تجسيده في الواقع، في دعوته إلى ما سماه "حراك شعب المواطنين"، بتجميع أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وفعاليات مستقلة. لكن، مع إعلان معظم الأحزاب القريبة من المرزوقي، والتي دعمت ترشحه، وساندته في مبادرته هذه، انسحبت، أخيراً، من "الحراك" لاعتبارات متعددة. تصطدم كل خطوة في اتجاه الاقتراب من بناء "الكتلة التاريخية" بعوامل عميقة في بنية النخب التونسية، ما يجعلها تنتكس، وتضيع في زحمة الصراعات والبحث عن الزعاماتية، وتفضل الدفاع عن كياناتها الضعيفة، خوفاً من الذوبان في حركية واسعة، لتحقيق أهداف أكبر من الأيديولوجيات الافتراضية والكيانات الحزبية. الكتلة التاريخية أكبر من مجرد بناء جبهات سياسية، أو صهر تيارات متنوعة داخل حزب واحد متعدد المنابر والرؤوس. فغرامشي دعا، في عهده، إلى تجاوز انقسام إيطاليا بين شمال وجنوب، وبين كنيسة ومناهضين لها، وبلور مفهوماً يقفز على التجاذبات الطبقية والدينية. كما راهن الجابري على الدفع نحو التوقف عن إقصاء الإسلاميين، وتجميد التناقضات القائمة على يمين ويسار، من أجل مشروع مجتمعي مشترك. لم تصل الحالة التونسية إلى هذا المستوى، على الرغم من تحدياتٍ كبرى تواجهها، إذ فشلت كل الدعوات للتقريب بين اليسار والقوميين من جهة، والإسلاميين من جهة أخرى. واليوم، لا يمكن لأي حكومة أن تنجح في إخراج البلاد من مأزقها الاقتصادي، إلا إذا توافقت كل الأطراف على برنامج اقتصادي واجتماعي، يلبي الحد الأدنى، وينهي حالة النزاع بين الحكومة والنقابات والقطاع الخاص، ويكون مدعوماً من أهم القوى السياسية. أي التوصل إلى بناء كتلة تاريخية. من دون ذلك، ستستمر محاولات بناء القصور على الماء.
صلاح الدين الجورشي كاتب من تونس، رئيس تحرير صحيفة "الرأي العام" الإلكترونية، وخبير في الحركات الإسلامية وقضايا المجتمع المدني. منسق لجنة البحوث والدراسات بالشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية. نائب أول سابق لرئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. |