حسناً لقد مضت سنة وجاءت أخرى، وتوالت الأشهر شهراً بعد
شهر، وها قد أتى آذار ..
اللعنة! ماذا علينا أن نفعل؟ لا يبدو أن في الأفقِ حدث سوف
يلوح ويطغى هذه السنة على الذكرى المشؤومة!
سنكون مرةً جديدة أمام الحائط ولن يكونَ
الأمرُ سهلا، ولو أن أصحاب الذكرى “أهل الفقيد” باتوا مقتنعين برحيل إبنهم، وأنهم على الأرجح صاروا
متسامحين معنا، نحن المسؤولون عن تلك الحادثة.
ولكن ها نحن ندركُ جيدا، في لحظة ما
سيتعيّن علينا أن نتواجه، ولو من بعيد. أن نقف في مقابل بعضنا. هم في صف ونحن في صف مقابل. أن ننتظر
منهم بادرةَ سوءٍ ما تجاهنا. سعينا جهدنا أن تكون المسافة بيننا كبيرة وكافية حتى لا تلتقي أعيننا وحتى
لا نسمع همسهم أو حتى هديرهم إذا ما عنّ لهم ذلك. ومع ذلك بقي الموعد يشكّل أرَقاً حقيقيا ثقيلا لن
يتلاشى الا صبيحة اليوم التالي. يوم نصبحُ في 15 آذار 2015 تماما كما أصبحنا في 15 آذار 2005 وما
تلاه.
ولكن الآن آهٍ كم هو قريبٌ هذا الموعد اللعين الرابع عشر من آذار.. وكم هو بعيد
الخامس عشر منه!
ماذا لو التقتْ أعيننا بأحدٍ منهم؟ ماذا لو كان قريباً منّا وسألنا
عمّا فعلت أيدينا؟ ولماذا؟ وكيف أنتهت “الثورة” حيث كان يجب أن تبدأ؟ ماذا لو ذكّرنا بنبوءة ألبير كامو:
“ينبغي للشهداء أن يختاروا بين نسيانهم أو استغلالهم”؟ ماذا لو قال نحن هنا الشهداء؟ وأنتم نسيتمونا
ولكنكم لم تتوقفوا عن استغلالنا أيضاً!! هل سيجانب الحقيقة؟
أو إن بادَرَنا أحدُهم: “لا
بأس.. سنطوي عشر سنين. ما هي خطتكم اليوم للغد ولما بعده؟”! بماذا سنردُّ؟ سنتنحنح ونتلعثم ونرغي ونزبد
لنقول اللاشيء. استنفدنا الحجج كلّها. والخطابات والتصريحات والوثائق والمستندات، واستدعينا كل
المؤامرات والخيانات والشهداء، وانتظرنا العدالة الدولية والمحكمة والشهادات. كل ذلك لنتجنّب هذه
اللحظة. لنقول أنه لم يكن في الإمكان أحسن ممّا كان. وأننا فعلنا ما بوسعنا وأننا وأننا
وأننا..
ولكن الرابع عشر ليس مناسبةً انتخابية. وليس استحقاقا توزيريا أو أيا من مواعيد
تقاسم الحصص والمنافع والتعيينات والامتيازات التي نأكل لحم بعضنا بلا ملح في سبيلها. فلمَ كلّ هذا
الارتباك؟ أحدُنا قال.
بإمكاننا أن نطلّ على القتلى بمشهدٍ مخادع جامع كما نفعلُ كلّ
سنة. نتلو في ساعة أو ساعتين ما تفيض به قريحتنا، يتثاءب الحاضرون ومن ثم يصفقون ويمضون في سبيلهم. وعلى
كل حال ليسوا كُثُراً وبطاقات دعواتهم جاهزة في قاعدة البيانات. سيشتغل طوني وجوزيف ليلتين في طباعتها
وسنزيّن القاعة كما درَجنا وهكذا ..
هنا قفز أحدُهم مستنكراً: ولكنها ذكرى العشر سنوات
“يا قوم”! هل يُعقل أن تمرّ الخديعة ككلّ سنة بلا “إبداع”؟! لمَ لا نجرّبُ شيئا
جديدا.
هذا الأحدهم ما زال يعتقد أن الناس تحت الشبّاك منتظرون. وأنهم رهن إشارة القائد
العظيم أو القادة الثلاثة العظماء وفروعهم وأصولهم. وأن أيا من الجمهور لم يتزحزح قيدَ أنملةٍ منذ عشر
سنوات. فقط ينبغي تحسين “العرض” وسيكونون جاهزين للتهليل.. كأي جمهور أنعم الله عليه بنعمة النسيان
ويعتقد أننا مُخَلّصيه.
وتفتّقت عبقريته على اقتراح لم يلبث أن لاقى من الحاضرين، وهم
أصلا ضئيلي الخيال، كلّ استحسان وترحيب. حتى أن بعضهم شوهد فاتحاً فاه وعلامات الدهشة والسرور مرتسمة
على وجهه كطفل اختبر للتوّ قدرته على النطق فجمع من حوله كلّ أفراد العائلة وبعض
الجيران.
ولم يكن هذا الاقتراح سوى: المجلس
الوطني!
• نزيه درويش أحد كتّاب “شؤون الشرق الاوسط”، وهو مدوّن وعضو مؤسس في حركة “اليسار
الديموقراطي” في لبنان كما من أوائل المشاركين في انتفاضة الاستقلال اللبنانية يوم 14 آذار/مارس
2005.