التاريخ: آذار ١٥, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
من «حداثة الهولوكوست» إلى «إسلاموية داعش» (2-2) - خالد الحروب
في الجزء الاول من هذه المقاربة تمت الإشارة إلى أن زيغمونت باومان في كتابه «الحداثة والهولوكوست» قدم منظوراً متمرداً ومختلفاً لفهم وتفسير المحرقة النازية لليهود من زاوية الحداثة. وقال إنه عوض أن نوظف السوسيولوجيا ونظريات الحداثة لمحاولة فهم الهولوكوست ولماذا حدثت وكيف تواطأت الأطراف المختلفة في تنفيذها، فإننا يجب أن نوظف الهولوكوست ذاتها لنعيد فهم الحداثة من منظور قدرتها على تهيئة المناخ للإبادات البشرية وإنطلاق و «تنظيم» الشر المطق بعقلانية وتفوق إداري وبيروقراطي مدهش. أي أن الهولوكوست تكشف بشاعة (تطرف) الحداثة على عكس كل القراءات السابقة التي أرادت أن تفهم بشاعة الهولوكوست من خلال الحداثة. انتُقد باومان على تطرف رأيه تجاه الحداثة، لكن ذلك النقد لم ينف قدراً مهماً من الطاقة التفسيرية والاستدلالية التي قدمها.

واليوم تغري قراءة باومان للحداثة من منظور الهولوكوست تقديم قراءة لفهم الإسلام وتعاليمه ونصوصه من منظور «الداعشية». وعوضاً من أن نقرأ «الداعشية» من منظور الإسلام وندينها بكونها خروجاً على النص الأصلي، كما كانت الهولوكوست خروجاً على النص الحداثي، فإن ما هو مطلوب العودة إلى النص الاصلي نفسه والتأمل في التأويلات والتفسيرات التي سادت (وتلك التي أقصيت وهُمشت) وآلت بنا نحو «الداعشية». تقودنا قراءة جريئة وغير مترددة كهذه إلى نتيجة أولى صادمة وهي أن «الداعشية» نتاج طبيعي لسيادة تفسيرات جامدة ومتعصبة للنص الديني، ظلت تنتشر أفقياً في الفضاء العربي والاسلامي طيلة قرون لكنها استعرت وتصاعدت سيطرتها خلال نصف القرن الأخير على أقل تقدير.

وقد نجحت هذه التفسيرات الموغلة في سلفيتها ونصيتها وفي اغتيالها للتنوع والتعدد في الإدعاء بامتلاك الحقيقة الدينية. اختفى من المشهد الديني في المنطقة العربية التدين الشعبي البسيط والتدين الصوفي الودود والمساحات الرمادية العريضة التي كانت تمور فيها الحياة الاجتماعية والثقافية واليومية. وأجهزت سلفية التفسير الاحادي للنص على العفويات المبدعة والعبقرية في المجتمعات والتي كانت تشتغل على تخليق صيغها ومعادلاتها الخاصة في مصالحة الدين مع الحياة، من دون تقعرات تنظيرية او تشدق أيديولوجي، ديني أو حداثي. في تلك المساحات الرمادية ومن خلال تلك العفويات التصالحية سيطر التعايش التلقائي بين شرائح المجتمع ًأيا كانت درجة تدينها، وكانت الطائفية منطوية على نفسها في خلفية المشهد، وفي الآن ذاته لم يتصدره متدينون جدد مدججون بأفكار وآراء الإقصاء والتكفير والتفسيق وشق أخاديد عميقة وواسعة بين فئات المجتمع الواحد. اختصر ذلك كله إلى «تفسير واحد» للدين اتسم بالسلفية والتشدد، وادعى لنفسه الكمال و «الحق» واعتبر التفسيرات الأخرى، العقلانية والصوفية والتسامحية والتعايشية وحتى المذهبية الأخرى باطلة ومرفوضة، ولا تتصف بـ «الصلابة السلفية المطلوبة».

يمكن وبسهولة ملاحظة الانحدار نحو الأصولية المتشددة والسلفيات المُزاودة على بعضها بعضاً في التطرف من خلال المقارنة بحاضر اليوم مع الماضي القريب قبل بضعة عقود فقط. هذا المشهد الذي آل نحو تشدد تفسيري صارم (ونازي الطعم على الصعيد الفكري) هو مشهد «الداعشية الناعمة» التي عششت في أوساطنا ولم نأبه إلى وقف زحفها الكبير. كانت تلك «الداعشية» تهيئ البيئة لتحولها القاتل والمتوحش الذي سيأتي لاحقاً.

الاسوأ من ذلك أن «الداعشية الناعمة» تعمقت وتجذرت مع تعمق آليات «تديين السياسة» و «تسيس الدين» في المنطقة العربية والتي اشتغلت على مسارين متنافسين ومتصارعين: أولهما تقوده الأنظمة المنشغلة بتوظيف الدين لدعم الشرعيات السياسية، وثانيهما تقوده الحركات الإسلاموية التي عمقت من خلط الدين بالسياسة وإنتاج وضع اجتماعي وسياسي مأزوم ومتأهب للإنفجار. وفي خضم التنافس بين هذه المسارين تصاعدت المزايدة في استخدام الدين لتعزيز الشرعيات السياسية، ونتج عن ذلك المزيد من الشرعنة لخطاب التطرف والإقصاء، وانتهينا عملياً إلى سيطرة خطاب «الداعشية الناعمة» بتنويعاته المختلفة وامتداداته في كل الاتجاهات.

أخطر تلك الامتدادات «الداعشية الناعمة» تمثلت في مناهج التربية الدينية التي ينكشف كثير منها هذه الأيام حتى في أكثر معاقل المؤسسات الدينية اعتدالاً، وهو الأزهر، لنجد تكفير الآخر والتسويغ لقتله ونفيه، واعتبار المختلف (سواء مذهبياً داخل الإسلام نفسه، أو دينياً مع من هم خارج الإسلام) منقوص الحقوق وهدفاً جاهزاً للقتل والإبادة. وشيئاً فشيئاً تسللت كل الفتاوى التي صدرت في سياقات وتواريخ محددة واستثنائية في الماضي السحيق وصارت هي من يحدد شكل العلاقة مع الآخر في واقعنا الحالي، أي في سياق وتاريخ مختلف تماماً. النتيجة النهائية لـ «التدعوش» التدريجي والراسخ في فضائنا وثقافتنا الدينية كان تخليق بيئة مؤاتية لبروز «الداعشية المتوحشة» التي نراها اليوم وهي تُترجم على الأرض أفكار وقناعات «الداعشية الناعمة» المتنامية بيننا على مدار عقود طويلة.

تتشابه «الداعشية المتوحشة» مع النازية في شكل مُدهش إذ تمتلك كلاهما منظوراً خلاصياً ومسيحانياً للعالم والكون، يفترض أن قانون الطبيعة في الحالة النازية والقانون الإلهي في الحالة «الداعشية» أيلولة قيادة (وأستاذية) العالم إليهما. كل من النظرتين تتسم بصرامة وتعصب لا يحتمل أي نقاش ولا جدل ولا مساومة: إما أن تكون مع النازية (وتفوق الجنس الآري) أو تكون ضدها، وإما أن تكون مع «الداعشية» لأنها تمثل «الحق» الذي لا حق بعده او تكون مع «الضلال». إن لم تكن مع هذه او تلك، كل في سياقها، فأنت لا تستحق العيش وتعتبر «عائقاً» في وجه تحقيق المشروع الخلاصي والكوني وتستوجب الإزاحة والإبادة، بدم بارد وقناعة يقينية. إنها الإبادة التي تخدم المشروع وتقود الإنسانية إلى مستقبل أفضل (في فهم النازية)، وتقود العالم إلى مستقبل الخلافة وأستاذية العالم (في فهم الداعشية).

هوس الإبادة الذي استبد بهتلر والنازية تجاوز يهود ألمانيا ويهود أوروبا، وشمل كل الدول والمجتمعات التي رفضته وعارضته، فانطلق يحارب في كل الاتجاهات، شمالاً وشرقاً، وجنوباً وغرباً، من الاتحاد السوفياتي إلى بريطانيا. وهوس الإبادة و «تطهير الصف من المنافقين» الذي يستبد بـ «الداعشية المتوحشة» لا يستثني أحداً. إنه الهوس المُرعب الذي يسوق، مثلاً، التسويغ «الداعشي» لعدم خوض أي معركة ضد اسرائيل، بضرورة تطهير الصف الداخلي من المنافقين، قبل خوض أي معركة مع «الأعداء»، وهذا التطهير يشمل عملياً بليون ونصف البليون من المسلمين الذين لا يؤيدون «داعش» ويلفظونها.

في «الداعشية» وآلياتها وفهمها وأساليب تطبيقها للفكر المُتوحش، وتماماً كما رأينا في النازية، تنفصل الوسيلة عن الغاية بطريقة مُذهلة. لا يهم استخدام أبشع الوسائل (وأكثرها تناقضا مع المبادئ الأولية) من أجل الغاية. وعليه لا تتحرج «الداعشية المتوحشة» من السطو والسرقة والبلطجة والمتاجرة حتى بالأعضاء البشرية. ولا تتحرج من إدارة شبكات دعارة تحت مسمّى «جهاد النكاح» حتى تجذب مقاتلين مهوسين جدداً من كل أصقاع الارض ممن همشتهم مجتمعاتهم وانحط بهم الفشل الفردي.

لكن هناك أيضاً فروقات جذرية بين النازية و «الداعشية المتوحشة». أولها يتمثل في تقنية القتل والإبادة ومسألة إخفاء عملية القتل أو الإعلام عنها. في الحالة النازية أراد هتلر ودائرته القيام بالجريمة الكبيرة في الخفاء ومن دون الإعلان عنها والتبجح بها. كانت مسألة «إدارية وبيروقراطية» بحتة لها علاقة بـ «تنظيف» الصف الداخلي، لكن لم يكن من ورائها هدف خارجي ولم تشكل جزءاً من استراتيجية وآليات خوض الحرب ضد الاعداء الخارجيين. في الحالة «الداعشية» يمثل القتل، وهو رقمياً أقل بكثير جداً من حجمه في الحالة النازية، استراتيجية ردع وتخويف وبث رعب في صفوف «الأعداء»، لذلك يتم الإعلان عنه بطريقة احتفالية وسينمائية مدهشة في تقنياتها ومقرفة في جوهرها. يُنجز الذبح والحرق أمام الكاميرا، ويسيل الدم وتتخبط الأجساد بين أيدي الذباحين قبل أن تصبح جثثاً هامدة، وتُرى «المقتلة» البشعة من قبل مئات الملايين من الناس. تريد «الداعشية» أن «تنتصر بالرعب»، وهذا مدخل آخر يفرض علينا العودة إلى تفسير النص وتطبيقاته في راهننا في من منظور «الداعشية المتوحشة».

تفترق «الداعشية المتوحشة» عن النازية أيضاً في مسألة جوهرية هي بناء الدولة. ألمانيا النازية كانت متفوقة تكنولوجيا ومتقدمة إدارياً وصناعياً. كانت هناك دولة حداثية مكتملة الأركان وتدير مجتمعاً بطريقتها الخاصة، يعتمد مفاهيم التقدم والبناء والتنمية. في الحالة «الداعشية» ليست هناك دولة ولا بناء ولا تنمية ولا تقدم. هناك هوس متجذر بمسألة القتال والقتل وخوض حروب لا تنتهي. الشباب المحبط والمهووس بالانتقام من مجتمعاته والحياة والبشر ممن يفر إلى «داعش» لا يفكر في بناء دولة ولا تنمية مجتمعات. تأسره فكرة إطلاق مخزون العنف المكبوت عند البشر وتحريره من دون أي قيود او ضوابط. «الداعشية المتوحشة» حطمت المدن والقرى والأرياف التي سيطرت عليها، وأرجعتها عقوداً طويلة إلى الوراء. كل ما تهتم به هو السطو على الأموال لتأمين دفع الرواتب والإنفاق على الحرب والقتل.