التاريخ: آذار ١٥, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
واقع الثورة اليوم - علي العبدالله
مع دخول الثورة السورية عامها الخامس تثور بين السوريين أسئلة قلقة حول المستقبل والمصير في ضوء الحالة السائدة في البلد، وتمسك النظام بالسلطة، ووضع المعارضة، بجناحيها السياسي والعسكري، الحرج لما تواجهه من انقسامات وتشتت، وفشلها في إدارة الصراع، خاصة بعد تعدد ساحاته، ودخولها، تحت ضغوط إقليمية ودولية، في مواجهة مع الجماعات المتطرفة، وتجرعها هزائم عسكرية في معارك مع قوات النظام وحلفائه، وخسارتها لحواضن شعبية، ولامبالاة المجتمع الدولي بالوضع المأسوي الذي يعيشونه.

أحدث انفجار ثورة الحرية والكرامة وانتصارات الجيش السوري الحر هزات زلزالية وارتدادات محلية وإقليمية ودولية ضربت في العمق معادلات سائدة استثمرت فيها دول كثيرة، فأثارت هواجس ومخاوف هذه الدول لما يمكن أن يحدثه العامل الشعبي السوري، الذي نهض مطالباً باستعادة حقوقه ودوره، من متغيرات محلية وإقليمية ودولية، ما دفعها للتحرك لحماية استثمارها والتحكم بتطورات الثورة وتداعياتها.

ردت هذه الدول بالانخراط في الصراع في أشكال متعددة حماية لمصالحها ومشاريعها عبر دعم موقف أحد طرفي الصراع سياسياً وعسكرياً ومالياً وتغذية المواجهة بالتجييش والتعبئة السياسية والدينية والمذهبية، فتعقدت معادلة الصراع وتعددت الخيارات والتصورات، وهذا وضع سورية تحت قصف عقائدي وسياسي وتسليحي، تسعى كل دولة من خلاله إلى فرض تصورها للحل، مستغلة تطورات الصراع على الأرض وتوازن القوى لإنضاج شروط الحل الذي يستجيب لمصالحها. وهذا رتب وجود صراعات متعددة الأطراف والغايات والأهداف: صراع بين الثورة والنظام، صراع بين معارضة سورية وقوى إسلامية متشددة وافدة بمشاريعها السياسية غير المقبولة، صراع إقليمي- إقليمي، صراع دولي – دولي، صراع دولي - إقليمي على مستقبل الإقليم ومآلاته والذي ستلعب طبيعة الحل في سورية دوراً محورياً في تحديد صورته. وهي صراعات متداخلة ومتشابكة ومتراكبة، وكل منها يتقاطع ويتعارض مع الصراعات الأخرى إلى حد التناقض.

في هذا السياق جاء بيان جنيف في 30/6/2012 فعكس حصول توافق دولي على حل سياسي يُبقي على النظام مع إخراج رأسه من المعادلة وإعادة هيكلة الجيش وأجهزة المخابرات وتشكيل هيئة حاكمة كاملة الصلاحيات بالتراضي مع المعارضة.

لم تقبل إيران بهذا الحل لأنه لم يراع مصالحها فتحركت لحماية النظام وتعزيز مواقعه وتعديل توازن القوى لمصلحته عبر دعمه عسكرياً ومالياً وإرسال مستشارين عسكريين ومقاتلين من حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية، ونجحت في إحداث تعديل في توازن القوى، وجاء انفجار الأزمة الأوكرانية واشتعال الصراع عليها بين الغرب وروسيا ليضع بيان جنيف على الرف وتبدأ الضغوط وعض الأصابع مجدداً. وزاد في تعقيد المشهد انطلاق المفاوضات الأميركية الإيرانية حول الملف النووي في ضوء سعي إيران لتعزيز موقفها التفاوضي وتكريس مكاسبها الإقليمية من جهة وحرص أميركا على نجاح المفاوضات وعدم مواجهة التحرك الإقليمي الإيراني خدمة لهذا الهدف من جهة ثانية، فتوسعت إيران في إرسال المستشارين والميليشيات والأسلحة وتصعيد المواجهة والعمل على حسم الصراع عسكرياً.

أفرزت التطورات الميدانية، خاصة مع بروز «داعش» وضربه للجيش السوري الحر وسيطرته على المناطق المحررة وهجومه على الموصل واحتلال مساحات شاسعة من أرض العراق، وإعطاء الأولوية للحرب على الإرهاب والضغط على الأطراف المحلية والإقليمية والدولية لتبني هذه الأولوية، حالة جمود وتردد في التعاطي مع الملف السوري، ما فسح المجال للنظام وحلفائه لتصعيد المواجهة على أمل تسجيل مكاسب توظّف على طاولة المفاوضات، وتحرك منفرداً بحثاً عن حل يفرضه على الآخرين، فطُرح تصور إيراني قائم على إشراك المعارضة في حكومة يقودها النظام، وعقدت موسكو عدة لقاءات مع النظام والمعارضة تمهيداً لعقد لقاء بينهما في إطار ما سمي «منتدى موسكو»، كمدخل لبلوغ حل سوري - سوري تتوحد فيه السلطة والمعارضة في مواجهة «داعش».

انعكست هذه التطورات سلباً على الثورة على الصعيدين السياسي والعسكري وعمقت الضعف البنيوي الذي تعانيه في ضوء فشل المعارضة في مأسسة قواها في كيان موحد، جبهة وطنية شاملة، وعقلنة تحركها السياسي والعسكري بتحويل الثورة من حالة العفوية إلى حالة منظمة ومنضبطة، فالمأسسة التي حصلت بتشكيل التنسيقيات والكتائب المسلحة جزئية وغير كافية لإدارة الصراع باستراتيجية موحدة وخطة ميدانية واحدة، فالفشل في مأسسة المعارضة مأسسة شاملة وتشكيل جبهة وطنية موحدة على أساس وطني عام ترك الميدان للعفوية والتشتت وللعقائد الخاصة كي تفرض نفسها وتصوراتها وقرارها على المناطق فتتفتت القوى وتنقسم الجبهات والحواضن الشعبية ما أضعفها في المواجهة، وفي إقناع المجتمع الدولي بأهليتها لإدارة البلاد بعد إسقاط النظام. وقد تجلت سلبية هذا العامل عندما طرح بيان جنيف وعقد مؤتمر جنيف 2 ومنتدى موسكو حيث انعدم التوافق وتفاضلت القوى بدل أن تتكامل.

لقد خسر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي أنهكته الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، فتآكلت مصداقيته وتراجع دوره، كما خسرت كتائب الجيش السوري الحر ثقة الحواضن الشعبية وتأييدها نتيجة الفوضى والممارسات غير المسؤولة وتراجع الدعم وفقدانها القدرة على التحرك الميداني المخطط والمنسق، ما أتاح لجبهة النصرة مهاجمة جبهة ثوار سورية وحركة حزم والقضاء عليهما والسيطرة على ريف محافظة إدلب، وطفت على السطح، نتيجة لهذا الوضع، الخلافات القومية والدينية والمذهبية وانبعثت الولاءات ما دون وطنية، وتباينت الرؤى والخيارات الوطنية في المجتمع والثورة بين الفيدرالية واللامركزية الإدارية ودولة مركزية بخلفية إسلامية (دولة خلافة) ومركزية تسلطية ودولة مواطنة وديموقراطية ومساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وهذا أدخل الثورة في مأزق حاد يستدعي إعادة التوازن للفكر والممارسة، وتحمل المسؤولية بجدية، وتجنيب الثورة مزيداً من النكسات والتراجعات، ومراعاة الحالة الإنسانية والمعنوية للمواطنين عامة وللحواضن الشعبية للثورة خاصة، وهذا يتطلب أول ما يتطلبه من قوى الثورة، بجناحيها السياسي والعسكري، وحواضنها الشعبية، توحيد الجهد وتنسيق التحرك لضمان استمرار الثورة وأهدافها والاحتفاظ بموقع رئيس على طاولة التفاوض لتحقيق نسبة معقولة من مطالبها، وهو هدف متاح إذا ما انحاز الجميع إلى التفكير العقلاني والعملي، واستبعدوا الصراعات الطفولية القائمة على إلغاء الآخر وإخراجه من المعادلة بالكامل. فالشراكة والتوافق والتمسك بنسبة استقلالية معقولة في اتخاذ القرار كفيلة بوضع المعارضة على جادة الصواب وفتح طريق الأمل واسعاً أمامها.