التاريخ: تشرين الثاني ٢٧, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
هل من عودة إلى ما قبل «الربيع العربي»؟ - رغيد الصلح
أعادت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية الربيع العربي إلى تونس مثلما انطلقت منها قبل سنوات ثلاث. فالانتخابات اتسمت بالحرارة ولكن بعيداً من العنف وبنسبة متدنية من الشوائب. وكما كان متوقعاً، فقد كانت هذه الجولة موضع متابعة واسعة تجاوزت تونس الى دول الجوار العربي والأفريقي والأوروبي. لقد أثبتت بلاد ثورة الياسمين انها قادرة على صنع الثورات وعلى تصديرها، ومن ثم كان الاهتمام بالانتخابات التونسية تعبيراً عن الاهتمام بالمنطقة وبالتحولات الكبرى التي تمسّها. في هذا السياق كان نجاح الانتخابات التونسية من الناحية الإجرائية حدثاً يثير التفاؤل بين الذين يأملون بانتشار الديموقراطية في المنطقة. في المقابل فقد اطلقت الانتخابات التونسية، من حيث نتائجها، سيلاً من التعليقات والتكهنات التي تمحورت حول ما اذا كانت هذه النتائج تعيد المنطقة الى حضن «الفلول» وأحزابها المهيمنة، أم أنه لا عودة الى الماضي؟ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي ان نأخذ في الاعتبار الملاحظات التالية:

أولاً: إن تاريخ المنطقة يدلنا على انها مرّت بأكثر من ربيع واحد وفي اكثر من بلد عربي، ولكن اعتبارات كثيرة ليست بعيدة عما نشهده اليوم ادت الى انتكاسات كبيرة. واستمرت هذه النكسات والتراجعات زمناً طويلاً بحيث اننا ما زلنا نعاني من آثارها. شهدت المنطقة مثل هذا الربيع عندما قامت بعد الحرب العالمية الأولى حكومة عربية وطنية وديموقراطية في دمشق ولكنها سرعان ما انهارت تحت وطأة الاحتلال الأجنبي. وقامت حكومات ديموقراطية في المنطقة ايضاً خلال الأربعينات لكنها انهارت تحت وطأة حرب عام 1948 وما أنجبته من انقلابات عسكرية، وانسدادات سياسية.

وقبل المنطقة العربية بقرن من الزمن، شهدت اوروبا فصولاً من الربيع خلال عام 1848 حيث اجتاح التغيير دول القارة، ولكن خلال سنة واحدة فقط، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، اذ رجع جميع الحكام السابقين، باستثناء فرنسا، الى مراكزهم، وأصبح بعضهم، كما يقول المؤرخ إيريك هابسباوم، اكثر قوة مما سبق. وفي عالمنا اليوم نجد ان مثل هذه الآمال تنتعش ثم تنتكس في كثير من الدول مثل ميانمار وزامبيا. اذن لا نستطيع ان نعوّل على عنصر الزمن وعلى الحتميات التاريخية لكي تنقلنا الى ربيع دائم.

ثانياً: ان التقييم العام في المنطقة لما يدعى بـ «الفلول» تنقصه الدقة من ناحيتين، كما يلاحظ بعض الكتاب والباحثين، وإنه من الأصح مراجعته في ضوء الاعتبارين التاليين:

1- خطأ الاعتقاد الشائع القائل إن «الفلول» او ما يشكّل القاعدة المجتمعية التي استندت اليها الأنظمة السابقة هي، في نهاية المطاف، محدودة العدد والأثر. ان هذا الرأي قد يكون سليماً استناداً الى ما نعرفه عن مدى النقمة المتفشية في اوساط شعبية معينة ضد الحكام السابقين. مقابل ذلك اثبتت الوقائع الملموسة مثل بعض المعارك الانتخابية والانتخابات التي جرت في تونس بالأمس وقبلها الانتخابات الرئاسية التي جرت في مصر بين المرشحين محمد مرسي وأحمد شفيق ان تعداد «الفلول» ومؤيدي الأنظمة السابقة ليسوا كماً يصح اهماله. 

2- هؤلاء ليسوا عادة جسماً واحداً ومتجانساً. في اكثر الحالات تجمعهم المصالح والعلاقات الزبائنية. وفي كثير من الحالات ايضاً يفرض عليهم الولاء للنظام السياسي القائم في بلدهم قسراًَ وحتى ضد قناعاتهم في بعض الأحيان. من هنا اتخذ الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حزب «النهضة»، موقفاً صحيحاً عندما سئل عن رأيه في مسألة «الفلول»، وعن النهج الذي ينبغي ان يتبع تجاههم وبخاصة تجاه اولئك الذين ارتكبوا ما يمكن اعتبارها جرائم ومخالفات كبرى، فقال ان هذه القضايا يجب ان تحال على القضاء لكي يبتّ فيها. ولا ريب ان هذا الرأي يحدّ من النزعة الى معاملة «الفلول» بروح انتقامية، ويحصر العقوبات بمن يستحقها، ويمهّد لإعادة التأهيل السياسي والفكري والمجتمعي لمن تبقّى من «الفلول». وهذا النهج يساعد على اغلاق باب العودة والتفكير فيها عند الحكام السابقين وأعوانهم المباشرين الذين يتحمّلون مسؤولية الأخطاء والانتهاكات الكبرى التي ارتكبت خلال وجودهم في السلطة.

ثالثاً: ان تقييم احتمالات تراجع او تقدم الأوضاع العربية يقفز احياناً عما جرى خلال سنوات «الربيع العربي». فخلال هذه السنوات، ظهرت الجماعات الإسلامية المسلحة التي مارست الإرهاب وتجاوزت في اعمالها القمعية والدموية الخيال. كذلك وصل «الإخوان المسلمون» الى الحكم في مصر، اكبر بلد عربي، ولكنهم لم يحسنوا ادارته وقدموا ادلة كثيرة على انهم ليسوا ضد فكرة الحزب المهيمن، بل انهم يؤيدونها شرط ان يكون حزبهم. ربما لم يكن هذا ما يريدونه بالتحديد. لعلها كانت اخطاء «غير مقصودة»، كما يقول انصارهم. ولكن «الإخوان» استمروا في ارتكاب اخطاء تحمل نفس الدلالات حتى بعد اخراجهم من السلطة عندما أخذوا يشددون على شعار الشرعية الذي يعني حقهم في العودة الى السلطة بدلاً من التأكيد على الاحتكام الى المبادئ الديموقراطية.

هذه التطورات ادت الى انتشار واشتداد الطلب في اوساط شعبية عربية على قيام «الحكم القوي» الذي يصد زحف المنظمات الإسلامية على الحكم والسلطة، او على التسلط من خارج الحكم. وهذه المطالبات قد تقود الى التراجع عن كل الإنجازات التي بوشر بالسير فيها خلال «الربيع العربي»، اي تكرار ما جرى في اوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر وما حدث في بلادنا خلال القرن العشرين.

رابعاً: ان اغلاق الأبواب في وجه «العودة الى ما سبق» يتطلّب نهوض الأحزاب والجماعات الإصلاحية والديموقراطية. ان هذه الجماعات تعاني من التشرذم والتشتت، وربما يرى البعض في هذا الواقع مقدمة للانتقال الى الديموقراطية، ولكنه قد يكون على العكس من ذلك معبراً للعودة الى الماضي، ونهاية بائسة لرحلة ضياع كما حدث عندما اراد رئيس جمهورية ساحل العاج فيليكس هوفييت بوانييه، إلباس حكمه الأوتوقراطي زياً ديموقراطياً فأطلق حرية تشكيل الأحزاب ثم بذل جهداً فائقاً في تشجيع اكبر عدد ممكن من ابناء بلده على تأسيسها بحيث فقدت الأحزاب معناها كممثل لتجمع واسع من المواطنين واستهلكت طاقاتها في التصارع في ما بينها، بينما كان حزب ساحل العاج الديموقراطي المهيمن بزعامة بوانييه يمسك وحده بمفاتيح الحكم والسلطة.

ان نهوض الأحزاب الإصلاحية ليس امراً سهلاً، بخاصة بعد رواج النظريات التي تقلل من اهمية المنظمات والأحزاب السياسية وتبالغ في تقدير فائدة العفوية وآثارها الإيجابية في الحياة العامة، وتشجّع الناشطين على استبدال العمل المنظم والهادف بالاتكال المفرط على وسائل الاتصال الاجتماعي. ولكن هذا النهوض هو الطريق الأفضل لضمان الانتقال السلمي الى انظمة التعددية السياسية من دون الخوف من انتكاسات في حجم ما نواجهه اليوم.

* كاتب لبناني