«من غير المقبول أن يأكل المواطن بقايا المجارير»، هكذا لخّص وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور وضع بلاده الغذائي، مقدماً تفسيراً علمياً لهذا المذاق في الفم، والذي يخلف أكل سندويش الطاووق «غير المطابق». لم يكن مضمون «قنبلة» الوزير الشاب جديداً بسبب تعدد «الفضائح» الغذائية في الآونة الأخيرة، لكنّ الشكل جاء مستغرباً، لجهة استعانة الجهات الرسمية بسلاح الفضيحة. ربّما نجم ذلك عن اعترافها الضمني بعدم قدرتها على الحد من إطعام المواطنين بقايا برازهم. هكذا اكتملت دائرة الحياة في هذه اللحظة، واندمج القلق بالفضيحة.
ولدائرة الحياة البيولوجية هذه معنى اجتماعي. فإذا تأسّس لبنان الحديث على تجربة المجاعة في الحرب العالميّة الأولى، بدت نهايته مرتبطة بتسمّم غذائه جراء اختلاطه بمجارير كلّ ما تأسّس منذ ما يعادل القرن. فالقلق من الغذاء غالباً ما يكون تعبيراً جماعياً عن قلق أو خوف من مجهول ما، يربط بين المفاهيم السائدة عن الجسد والطهارة والصحة والنظافة لينتج قلقاً، يوطِّن المخاوف الاجتماعية والسياسية بيولوجياً. هكذا انتشرت منذ القرن التاسع عشر في أوروبا حالات من القلق الاجتماعي تتعلق بالنظافة العامة والغذاء، ربطت بين التحوّلات الاجتماعية والهواجس الجسدية. وبقيت مسألة الغذاء أحد الهواجس الشائعة لدى المجتمعات الحديثة، حيث شهدت، مثلاً، بريطانيا خلال الحقبة الممتدّة البادئة بأواخر الثمانينات عدداً من الفضائح، من انتشار بكتيريا السلمونيلا إلى أزمة مرض جنون البقر وصولاً إلى فضيحة لحم الخيل. ومع صعود موجة العنصرية تجاه الجاليات المسلمة، أخذ هذا الهاجس الغذائي منحى دينياً، مع صدمة البريطانيين باكتشافهم أن لحمهم «حلال».
وهذا الارتباط بين الغذاء والهواجس الاجتماعية ليس محصوراً بالغرب وتاريخه الحديث، بل يمتدّ إلى سائر المجتمعات، وغالباً من خلال الرابط الاستعماري أو سياسات التحديث. فقد شكّلت الصحة العامة أحد المجالات الأساسية لإعادة تنظيم المجتمعات المستعمرة وأحد مصادر قلق التحديثيين من خطر ماضيهم. فمع التحولات التي أنتجتها حرب 1860 والتنظيمات العثمانية وسياسات التحديث، انتشرت في بيروت هواجس مرتبطة بالوباء والنظافة، واكبت إعادة تنظيم المدينة في مجال الصحة العامة وأعطت للحداثة المستجدّة طابعاً بيولوجياً. واستمرّ هذا النمط في حقبة الانتداب، ليتحوّل اليوم إلى أحد التعابير الأساسية عن القلق السياسي الذي يعمّ لبنان.
فليس من المصادفة أنّ يكتشف اللبنانيون، في لحظة أزمتهم الوجودية، أنّ غذاءهم وماءهم وهواءهم وأدويتهم ومبانيهم باتت مصادر خطر خفيّة، تضاف إلى الأخطار الظاهرة. هذا بالإضافة إلى الهواجس الآتية من وراء الحدود، والتي باتت تتداخل مع النازحين، بحسب أصحاب الهواجس العنصرية. هكذا غدت ترجمة الأزمة السياسية تكمن في الإحساس الدفين بأنّ الجسد يُغتصب مع كل تنشق للهواء أو احتساء لجرعة ماء. لم تعد هناك حصانة من حالة الاهتراء العامة. وفي هذه اللحظة القلقة، فقدت قشطة الحلاّب حصانتها لتبدو ملخصاً لما قطعته البلاد منذ 1881، تاريخ تأسيس الحلاّب، وذلك بغض النظر عن التهام فيصل كرامي لها في تأكيد على أنّ الطائفية تبقى أقوى من الجراثيم. فالوعي أيضاً يمكن أن يكون غير مطابق، على ما أشار المفكّر الراحل ياسين الحافظ.
وإذا كان الهاجس الغدائي شكّل في الماضي أحد الدوافع الأساسية لتعميم وتعميق تدخّلات الدولة الحديثة في مجتمعها، فهذا الرابط انكسر مع المؤتمر «التشهيري» لوزير الصحة، حيث استُبدِلت تدخّلات الدولة بتحذير للمواطنين واتّكال على قدرتهم على محاسبة المؤسسات المخالفة وإجبارها على الالتزام بمعايير «مطابقة». بهذا المعنى، لجأ الوزير إلى تقنية إعلامية تقوم على الفضح لغياب المحاسبة المؤسساتية، وهي تقنية انتشرت في لبنان في الآونة الأخيرة كتعبير عن استحالة كل محاسبة قانونية أو سياسية للفساد. غير أنّ لسياسة التشهير، خصوصاً عندما يستعملها طرف رسمي، شروطاً. فهي تقوم على الفارق بين الظاهر والباطن، والرفض الأخلاقي لهذا الفارق. فالتشهير يقدّم تفسيراً أو تجسيداً للقلق من المجهول، أو فاعلاً يحوّل الإحساس العام بالقلق إلى مضبطة اتّهام، مُخرجاً إياه من الداخل النفسي إلى الخارج القانوني. فوراء الأدوية الفاسدة، مستوردون وصيادلة فاسدون، ووراء الغذاء غير المطابق أصحاب مؤسسات غير مطابقين، ووراء تلوث البحر مؤسسات ملوثة. هذا مفاد التشهير الذي بات آخر معقل للفعالية في نظام يبدو أنه يسير من غير أي فاعل.
وهنا قد تكمن حدود التشهير وحركة وزارة الصحة الأخيرة. فقد قام النظــــام اللبناني على خطاب مزدوج تشوبه حالة من «الخزي». وتطور هذا الخــــطاب في ظل علاقة النظام بالطائفية، غير أنّه انتشر ليصبح أيديولوجيته وثقافـــته. وخطاب كهذا لا حاجة معه إلى تسريبات، كون الباطن والظاهر باتا يشكّلان خطاباً واحداً مزدوجاً. ما فضحه وزير الصحة كان معروفاً لكل من تسمّم يوماً ما أو تساءل عن مصدر مياه الخزّانات المتنقلة أو راقب المجارير التي تتدفق في البحر الأبيض. غير المتوقع في تقريره كان التطابق، عندما وُجِد، مع المعايير. غير أنه في فضحه هذا، قضى الوزير على المساحة الضئيلة للشك والكذب على النفس، التي كانت تؤمّنها ازدواجية الخطاب، ووضع الجميع أمام حقيقة هواجسهم وحتمية تناولهم لبقايا برازهم.
فالحقيقة ليست دائماً الطريق إلى الخلاص، وكما أنّ انتقال الطائفية إلى العلن بات مدخلاً لأعنف الممارسات، فسوف يأتي يوم يصرخ فيه مناصر صاحب المطعم غير المطابق: «ناكل خـ... فدا السياحة». |