المجتمع المدني كلمة فضفاضة؟ هذا صحيح، لكن علينا أن نضيف أيضاً أنّ الكلمات التي نستعملها في العلاقة بالمجال العام، أغلبها إن لم تكن كلها كلمات قابلة لتعددية المعاني، مثل السلطة والديموقراطية والعدل والحريّة والمساواة والتمثيلية والسيادة والمدنية، الخ. ومع ذلك، فإنّ لكلّ هذه الكلمات دلالات تصنعها السياقات التي تتنزّل فيها. فلا تشذّ كلمة «مجتمع مدني» عن هذه القاعدة. ولو انتظرت حركات مقاومة العبودية الاتفاق على معنى الحرية لظلّ ملايين البشر عبيداً إلى اليوم، وكذلك لن يكون ممكناً أن نبدأ بالاتفاق على مضمون المجتمع المدني قبل التدخل باسمه في الشأن العام، بل المضمون سيتحدّد عملياً بالحاجة إلى مثل هذا التدخّل وما يحقّقه من نتائج.
بصفة عامة، يمكن القول إنّ المجتمع المدني فضاء متميّز عن أجهزة الدولة يسعى في آن إلى التأثير فيها ويتعدّاها إلى التأثير في الشأن العام. فهو جزء من الممارسة السياسية بالمعنى الواسع، لكنه متميّز عن المجتمع السياسي بالمعنى المؤسساتي والحزبي (وليست الأحزاب في ذاتها إلاّ مؤسسات سياسية). والممارسة السياسية في مجتمع حديث يمكن أن تحصل بطريقتين: طريقة التأثير في الشأن العام بالوصول إلى مواقع القرار فيه وتسيير أجهزته ومؤسساته، وطريقة التأثير فيه بتشكيل قوة اقتراح وضغط على هذه المؤسسات والأجهزة عبر الرأي العام.
فالمجتمع المدني منطقة وسطى بين أجهزة الحكم من جهة، والمواطنين الذين يمارسون الحدّ الأدنى من المواطَنة من جهة أخرى.
من هنا، تتميّز مكوّنات المجتمع المدني عن التنظيمات السياسية بكونها لا تسعى بالضرورة إلى الاستحواذ على المؤسسات للتأثير فيها، بل الأولوية من وجهة نظرها التأثير فيها من الخارج، على خلاف الأحزاب التي تعمل بطريقة عكسية. والأحزاب السياسية جزء من أجهزة الحكم، لأنها تسيّر هذه الأجهزة عندما تحصل على الغالبية. وعندما تكون في المعارضة، تجعل هدفها الأكبر الحصول على الغالبية للتحوّل إلى مواقع تسييرها. وهي في كلّ الحالات، تنطلق من رؤية جامعة للشأن العام، أو هكذا يفترض أن تكون.
أمّا المجتمع المدني فهو يدافع عن قضايا أفقية في المجتمع يمكن أن تلتقي حولها أطراف، وهي في الغالب قضايا جزئية وأساسية في آن، تتراوح بين الدفاع عن حقوق الإنسان والدفاع عن البيئة أو الحسّ المدني اليومي والسلوك اللائق. وبهذا التحديد، يقوم المجتمع المدني على المبادرة والالتزام الطوعي، بمقتضى رؤية اجتماعية. وهو غير «المجتمع الأهلي» القديم الذي كان يقوم على انتماءات غير قابلة للاختيار، مثل القبيلة والدين والمذهب والحرفة، وهي محدّدات ماقبلية بالنسبة إلى الفرد. ثم إنّ المجتمع المدني لا يكون ذا معنى إلاّ بوجود الدولة بالمعنى الحديث حيث تقوم على المواطَنة الفردية. فالمجتمع المدني تجمّع طوعي لأفراد يرغبون في المشاركة في الشأن العام من دون أن يكونوا منخرطين بالضرورة انخراطاً عضوياً في أحزاب سياسية ذات تنظيمات مهيكلة وبرامج شاملة.
وتتمثل نقطة قوّة المجتمع المدني في إطلاقه روح المبادرة والإبداع والتجديد، وتتمثل نقطة ضعفه في محدودية المبادرات الفردية أمام التنظيمات الجمعية، سواء كانت ماقبلية (جماعة الانتماء) أو اختيارية (الانخراط في حزب سياسي). ونشأت المجتمعات المدنية في غالبية المجتمعات العربية في فترات التحرّر الوطني، مع نشأة التعليم الحديث الذي فتح المجال للأفراد للتحرّر من المجتمع التقليدي وإكراهاته، من دون التحوّل إلى واسطة بين هذا المجتمع والبيروقراطية الاستعمارية ثم الوطنية التي كانت تسعى الى السيطرة عليه.
وإذا قبلنا بهذا التحديد، بالماهية وبالمنشأ، فإنّ أدوار المجتمع المدني ووظائفه اليوم ينبغي أن تتجه أساساً إلى أكبر القضايا العابرة وهي إنجاح المسارات الانتقالية. فلئن كان دور الأحزاب التنافس السلمي الديموقراطي على السلطة وتكريس تداولها، فإنّ دور المجتمع المدني هو العمل لإحلال ضوابط الانتقال الناجح وترسيخها. وهذا لا يعني أن المجتمع المدني متعالٍ على الأحزاب أو قائم بالوصاية عليها، لكنه المراقب لقواعد تنظيم الشأن العام والساعي إلى ابتكار ما هو ضروري منها. ومثلما أن الحكَم في مباراة رياضية ليس أهم من اللاعبين النجوم في الفرق المتبارية، مع أهمية دوره في تأمين سلامة اللعبة ونزاهتها، فإنّ المجتمع المدني هو الأقدر على توجيه المراحل الانتقالية وإنجاحها إذا حافظ على الالتزام السياسي برؤية مجتمعية والمسافة النقديّة من التنظيمات الحزبية في الوقت ذاته.
شهد الفكر السياسي في العقود الأخيرة مناقشات صاخبة بين اليمين الجديد الذي دافع عن أطروحة مفادها أنّ السوق هي الفضاء الأمثل لترسيخ قيم المواطَنة، ومنظّري المجتمع المدني الذين دافعوا عن أطروحة مفادها أنّ تعزيز المشاركة في الشأن العام أفضل طريقة لتحصيل فضائل المواطَنة. وإذا نزّلنا هذا الجدل في السياقات العربية، يفقد الجزء الأكبر من أهميـــته، باعتبار أنّ الأطروحة الأولى لا تُفهم إلاّ في سياق ردّ الفعل على دول الرفاه التــي ظهرت في الغرب واتهمت بأنها قتلت روح المواطَنة بإخضاعها المواطنين لرعايتها المــــفرطة وتسييرها البيروقراطي الخانق. أما المشكل في السياقات العربية فهو ضعف مبدأ المـــواطَنة من الأساس، لأنه ظلّ مسحوقاً بين ثقلين: الرعاية الأبوية التقليدية من جهة والأيـــديولوجيات الطــــائفية الناسفة للمواطَنة من جهة أخرى. لذلك تتأكّد مع الحراك الراهن، سواء كـــان ثورياً أم إصلاحياً، أهمية وجود مجتمع مدني فاعــــل ومجــــدّد ونشيط، يجعل هدفه الرئيسي نجــــاح الانتقال الديموقراطي وبناء دولة المواطَنة. |